
كتب / جعفر العلوجي
يروي إميل سيوران شاعر القلق وفيلسوف الهدم قصة قصيرة لكنها تكاد تختصر العالم كله في ربيع 1937 كان يتجول في حديقة مستشفى للأمراض العقلية حين اقترب منه أحد النزلاء قائلا ما يشبه الحقيقة كلها (من المفيد أن يكون المرء مجنونا … هنا نعيش بلا مشاغل والحرب تقترب وهذا المكان آمن)
وحين حاول سيوران الاعتراض بأن المستشفى نوع من السجن، قال الرجل (هو كذلك لكنهم لا يقصفون مستشفيات المجانين … لو كنت مكانك لحجزت مكانا هنا فورا) .
خرج سيوران مرتبكا وهو يردد (لم يقدم لي أحد نصيحة أعقل من تلك في حياتي كلها) .
هذه القصة ليست مجرد طرفة فلسفية إنها مرآة ساخرة نرى فيها واقعا يزداد غرابة … واقعا يفرح فيه البعض بخراب وطنه، ويصفق بعض (العقلاء) لقرارات خارجية تمس أبناء بلدهم دون بينات واضحة ولا أدلة راسخة، ولا تحقيقات نزيهة. واقع يتحول فيه الاتهام إلى رأي، والرأي إلى حقيقة، والحقيقة إلى مشجب تعلق عليه الكراهية والحسابات الصغيرة .
اليوم حين نرى ما يتعرض له الدكتور عقيل مفتن الرجل الذي صنع نجاحات ملموسة للرياضة العراقية وخدم مؤسساتها باجتهاد وهدوء وسعى لرفع اسم العراق في المحافل الدولية، نكتشف أننا نعيش لحظة تتجاوز (حكمة المجانين) إلى شيء أشبه بـ جنون العقلاء .
كيف يمكن لوطن أن يفرح بضربة موجهة لأحد أبنائه قبل أن يتأكد من صحتها؟
كيف يمكن لمواطن أن يطعن ابن بلده وهو يعلم أن الاتهام قائم على (يقال) و(سمعنا) و(وصلنا خبر)؟
كيف أصبح العقلاء يتسابقون لتدمير سمعة مواطن ومسؤول بينما نصيحة (المجنون) في قصة سيوران تبدو أكثر حكمة ورحمة وعدلا من تصرفات البعض؟
الأسوأ من ذلك أن بعض هذه الحملات ليست عفوية بل تأتي من خلف الستار، تقارير مسمومة، صراعات مصالح، تنافس على الكراسي، ورغبة لدى البعض بأن يسقط الآخر حتى لو سقطت الرياضة كلها معه .
الكرسي هذا اللعين الذي يبدل الأخلاق ويحول الوطنية إلى ورقة والمبادئ إلى ظل .
لعنة الله على كل كرسي يشتري ضميرا ويبيع سمعة رجل خدم بلده باخلاص .
ولعنة الله على من أوصل الرياضة العراقية إلى هذا التعقيد والاحتراب الداخلي .
إن ما يحدث اليوم لا يمس الدكتور عقيل مفتن كشخص فقط بل يمس هيبة الرياضة العراقية ومستقبلها ومكانتها الدولية .
إن الطعن المتعجل والتشهير قبل التحقق وفتح الباب أمام الخارج ليحكم بدل مؤسسات البلد، كل هذا يدل على أننا نعيش زمنا ينبغي فيه أن نستعيد حكمة (المجنون) في حكاية سيوران، لأنها تبدو أعدل وأكثر إنصافا من (حكمة) البعض ممن يدعون العقل .
في النهاية يبقى الثبات على المبدأ هو العقل الحقيقي، ويبقى الدفاع عن الحقيقة شرفا، ويبقى الإنصاف هو الطريق الوحيد ليتعافى وطن أنهكه صراع المناصب، وأتعبته الحروب، وأرهقه الجدل العقيم .
ومن لم يتعلم من حكمة المجانين ستلتهمه فوضى العقلاء .