​كلهم رحلوا.. !



حسين الذكر


كانت عمتي تصر على ان رغيف الخبز على المدفئة يعد من فواكه الشتاء اذ يطول ليل الفقراء جراء ملفات تتطلب جهدا وتكاليف لغرض حلها في صباح كل يوم كادح من فجره حتى غسقه . حينما فقدت وحيدها الشاب في احدى الحروب كنت قد بلغت عتبة الهوى وعرفت معنى الاسى  وقد حزنت كثيرا حينما شاهدتها تزحف على الارض من شدة وجع حالة الفقد الذي ظلت ترتدي سواده حتى انتقلت الى بارئها تحت ذات العويل الذي تقطع قلبي لسماعه اول مرة .

لم تكن اول مرة تستوقفني نهاية العالم .. فقد مارست التيه بضياعات ليس لها اول ولا آخر كانه الم ماطر كالروتين الممل .. فيه اعتصار روحي يكاد يشل اقدامي ويعصف بجسدي .. 

امي التي فقدت احد اولادها الشباب ظلت تجمع اشياءه ( سكاير وادوات حلاقة وعطره ومحفظته... ) وتبكي مريرا لم اكن اعي منه الكثير حتى فقدت ولدي واصبحت اجيد فن سبر اغوار النعي الجنائزي .. وقد ظلت على هذا الحال اكثر من ثلاثين عام تهيج اشجان البيت كله في كل عيد ومناسبة لا يعي وقع عويلها الا هي .. كاني ورثت الدمع منها فادركت بالتجربة معنى صدى الحيطان اثر ملحمة حزن شجين .

احقا ممكن تصور الحدود بلا حدود .. او النهايات بلا انتهاء .. ؟ أي قسوة تلك في الإذعان لحال الانسان .. يا ترى هل ما على الأرض جدير بتعويضنا عن مجرد لحظة بذلك التفكير القاسي ؟

قال لي صديقي العزيز الاستاذ ستار ابو شروق قبل ان يودع العالم : ( وقع الحصار ظالم قاس بلا رحمة وان المرض هدني ولا اخشى الموت لكن ولدي ما زال صغير وابنتي طالبة وتحتاج الكثير) .. بعد ايام قلائل قرات بتهجي يافطة نعيه على حائط المدرسة الذي كان يدرس فيها وقد تجمع حولها طلبته ومحبيه شعرت ان قطار العمر قسري الركب والرحيل وان طال الترحال فيه .

لم تكتف نفسي باعادة جدولة افكارها .. بل اخذت على عاتقي منذ الصغر تحمل ضغوط الوعي وهو يستدرج الأشياء ويقارن ما بين الملذات وما يلحقها من الم واي الم ذلك الذي لا يمكن حصره وعده ووقفه بصبر او خلجات قلم ..

حينما وقفت على سرير ابي المسجى في المشفى بمشهد رهيب كانه ينعى نفسه شعرت ان العالم يعصرني ويعصف بي نحو جرداء لا نسم فيها الا من تيه ليس له عنوان .. هكذا بكيت ابي بصمت مزلزل حد الاختناق مع انه لم يكن اول الراحلين ولا آخر من تسجى في قطار الفراق الممتد من طينة آدم حتى وعود القيامة .

( اين امي وابي اين اولادي 

اين انا

اين من كان هنا 

يملا الدنيا صراخ وعويلا وغنا )

قد يطول المقام .. وتبقى تلك السنن والاسئلة حبلى بلا إجابات ولا انفراجات ولا مقبوليات حد الرضا الا بالتسليم .. هنا تكمن ازمة حادة أخرى .. تتشعب منها فروع قد تطيح باس الفكرة .. التي بنيت عليها كل الأفكار اللاحقة .. 

فثمرة العقل ان تخوض بتفاصيل عذابات الواقع .. وان تبقى كادحا حافرا الصخر لغرض الوصول الى تثبيت القدم ولو مرة واحدة من بين الاف الزلات .. واي زلات تلك التي لا تعد ولا تحصى في عالم مزلزل الأفكار مذ عصف الجهالات حتى عصر عالمية القرية ..

صحيح ان الرؤية في بعض اللوحات واضحة الا ان اغلب المشاهد معتمة حد العمى .. بل فيها تحري العمى يعد  ذروة لامنيات الذات سيما المبصرة منها .. اذ لم تصل بنا المراكب ولن تسترح على رمال واحات مشمسة او شاسعات مجمدة .. كل الاحتمالات ورادة كل السبل متاحة كل الأفكار شاردة كل الرؤوس معلقة كل الأنظار شاخصة ... نحو انسان لم يمتلك يوما حرية انسانيته .. مما جعل ضالته اكذوبة لا يمكن ان يراها او يرويها على الملأ ولو من باب الاستبيان .. وان ثبت على بعض الثوابت جراء الضعف .. فان النظر النسبي انسب للانسان من تحمل وقع البيان. 

قبل ايام طال عتب اهلي واقاربي لاني تاخرت بزيارة اختي الكبيرة وهي تتجرع مرارة الفراق وقد زارها كل معارفنا الا انا تخلفت منهم .. اذ لا املك قدرة المرور بذكريات ذات المشفى الذي عشت مع ولدي اتعس ايام حياتي .. اخشى ان اتذكر حد البكاء ذكرياته هنا في هذا المشفى الذي ماتت به امي وابي وابن اختي واقاربي والكثير من اعز اصدقائي .. قطار الموت لا يتوقف هنا وفي كل مرة نبكي الفراق نجد انفسنا تحت وقع فقد آخر ..

ما ان رايتها ممدة بالفراش حتى صدمت من تلك المرأة القوية التي قارعت الزمان ولوت يد الاحداث بعقود طويلة حفرت فيه الصخر من اجل تربية اطفالها الذين يحيطونها الان وقد اغرورقت اعينهم بدمع الذهل الذي لم اتمالك نفسي فيه حتى اعتراني رهب اخرسني استحضرت فيه اهوال الذين رحلوا وهم لا يعدون ثم بكيت وبكيت وأنسل على وجنتي حبر بلا لون لكنه يختزل تاريخ الم العالم .

رحلت طالت بنا  - غربت ضاقت بنا

كم طويل دربنا - كم قصير عمرنا

قدر يلهو بنا

من يكون ومن اكون انا

إرسال تعليق

أحدث أقدم