
ناجي الغزي/كاتب وسياسي
في كل مرة يُطرح فيها شعار حصر السلاح بيد الدولة، يُسارع البعض إلى ربطه بهاجس خارجي، أو اعتباره استجابة لضغوط أمريكية أو إقليمية. غير أن هذا الاختزال يظلم الفكرة ويُفرغها من مضمونها الحقيقي. فحصر السلاح ليس مطلباً وافداً من خلف الحدود، بل حاجة عراقية خالصة، وشرطاً بنيوياً لأي دولة تريد أن تعيش لا أن تُدار بالأزمات.
*من الخوف إلى المبادرة*
الدول لا تُبنى بالخوف من الخارج، بل بالثقة من الداخل. وحصر السلاح، إذا ما قُرئ قراءة وطنية، لا ينطلق من خشية العقوبات أو التهديدات، بل من إدراك عميق بأن تعدد مراكز القوة يُضعف القرار السيادي مهما كانت النوايا نبيلة. فالدولة التي لا تحتكر أدوات العنف المشروع لا تستطيع التخطيط، ولا الاستثمار، ولا حماية السلم الأهلي على المدى البعيد.
من هنا، فإن المبادرة ليست تنازلاً ولا انكساراً، بل فعل سيادي استباقي يعيد تعريف القوة داخل النظام السياسي، ويضعها في إطار مؤسسي جامع.
*حصر لا تسليم: منطق الدولة لا منطق الإلغاء*
الفرق الجوهري بين "تسليم السلاح " و "حصر السلاح" ليس فرقاً لغوياً عابراً، بل تمايزٌ عميق في الرؤية الاستراتيجية للدولة ووظيفتها. فالتسليم يحمل دلالة القطع والاقتلاع، ويُفهم بوصفه نفياً للتجربة ومحواً لدورها، بينما الحصر يعكس فلسفة مغايرة قوامها الاستيعاب والتنظيم لا الإقصاء.
حصر السلاح يعني إعادة تموضع القوة داخل الإطار الوطني الجامع، ونقلها من فضاءات الهويات الجزئية إلى فضاء الدولة، ومن تعدد الولاءات إلى وحدة المرجعية الدستورية. إنه تحويل للسلاح من أداة مرتبطة بالسياق الاستثنائي إلى عنصر من عناصر السيادة الدائمة، يخضع للقانون ويعمل باسم الأمة لا باسم الجماعة.
في هذا المعنى، لا يُنظر إلى حصر السلاح بوصفه إضعافاً لأولئك الذين حملوه في لحظات الخطر الوجودي، بل باعتباره تتويجاً تاريخياً لتضحياتهم. فالدولة لا تلغي أبناءها حين تحتضن قوتهم، بل تمنحها معناها الأعلى، وتفتح أمامها أفق الانتقال من زمن الضرورة القاسية إلى زمن الدولة المستقرة، حيث تُحمى التضحيات بالقانون، ويُصان السلاح بالشرعية، وتُدار القوة بعقل الدولة لا بإرث الطوارئ.
*الدولة القوية لا تُبنى بالازدواج*
التجربة العراقية أثبتت أن ازدواج القوة يولّد ازدواج القرار، وأن ازدواج القرار يؤدي حتماً إلى شلل استراتيجي. الدولة التي لا تتحكم بشكل كامل بأدوات القوة داخل حدودها لا يمكنها أن تفاوض بثقة، ولا تخطط أمنياً بفاعلية، ولا توفر بيئة مستقرة للمستثمرين أو للمواطن.
كما يمثل حصر السلاح بيد الدولة المدخل العملي لإعادة بناء هيبة القانون ومصداقية الدولة. لكنه ليس مجرد أداة قهر أو وسيلة لإخضاع القوى، بل هو آلية لتحقيق الوضوح السياسي والاستراتيجي: وضوح من يقرر، وضوح من ينفذ، وضوح من يُحاسب.
هذا الوضوح يُحوّل القوة من عنصر تشظي وفوضى إلى ركيزة للسيادة الوطنية، ويؤسس لدولة قوية، متماسكة، قادرة على حماية شعبها وصون أمنه دون ازدواج أو تناقض في السلطة.
*نوايا وطنية لا رسائل خارجية*
الرهان الحقيقي في هذه المبادرة ليس إرضاء واشنطن ولا طمأنة العواصم الإقليمية، الرهان الحقيقي يكمن في الداخل، في المواطن العراقي نفسه؛ المواطن الذي يحتاج إلى أن يطمئن بأن الأمن لا يخضع لتوازنات أو تحالفات سياسية، وأن القانون لا يتغير بتغير موازين القوة.
حين تُركَّز القوة والسلاح في إطار الدولة، تتحول السياسة من ساحة للابتزاز والتخويف إلى فضاء للتنافس الديمقراطي المشروع، ويصبح الخلاف السياسي ظاهرة صحية تُغني المجتمع بدلاً من أن تتحول إلى مقدمة للعنف أو الاقتتال. في هذه المعادلة، الدولة لا تفرض القانون بالقوة فحسب، بل تمنحه معنى وأماناً للمواطن، فتؤسس لشراكة وطنية حقيقية بين الحاكم والمحكوم، وبين القوى السياسية كافة، تحت مظلة سيادة الدولة ووحدة القرار الوطني.
*السلاح والدولة في معادلة الطوارئ*
على العكس مما يُشاع، فإن حصر السلاح لا يُضعف القدرة الدفاعية، بل يعززها. فالدولة الموحدة بالسلاح ورجاله الأبطال، ضمن قيادة واحدة وعقيدة أمنية واضحة، تكون أكثر جاهزية للطوارئ وأكثر قدرة على الردع. القوة حين تُدار مركزياً تصبح أكثر فاعلية وأقل كلفة.
لقد جاءت هذه المبادرة لضبط المستقبل، فهي تمثل دعوة لإعادة تموضع الدولة كإطار جامع يجمع بين الجميع، لا كخصم يواجه القوى التي حملت السلاح سابقاً، ولتكون ضامناً للأمن والاستقرار بدلاً من أن تتحول إلى منافس لتلك القوى.
إنها لحظة انتقال من منطق الثورة الدائمة إلى منطق الدولة المستقرة، ومن شرعية الضرورة إلى شرعية الدستور. وحين يُفهم هذا المسار على حقيقته، يصبح حصر السلاح مشروعاً وطنياً جامعاً، لا مطلباً خارجياً ولا استجابة لتهديد، بل تعبيراً عن نضج الدولة وإرادتها في أن تكون سيدة نفسها. بحيث تصبح هذه المبادرة، خارطة طريق لبناء دولة قوية، متماسكة، قادرة على حماية مواطنيها وضمان الأمن والاستقرار، مع الحفاظ على تضحيات القوى التي حملت السلاح في مراحل الخطر، وتحويل إرثها إلى قوة شرعية ووطنية لخدمة العراق كله.