
ناجي الغزي/ كاتب وسياسي
لا تبدأ الحروب عادةً بالمدافع، بل بالجمل. وبمصطلح جديد، وبتوصيف صادم، أو بتوسيعٍ مقصود لمعنى الخطر. هكذا حين قال ترامب إن مخدر الفنتانيل الفنزويلي يشكل "سلاح دمار شامل"، لم يكن يستحدث توصيفاً طبياً أو أمنياً بقدر ما كان يوقظ ذاكرة سياسية ثقيلة، ذاكرة عام 2003، يوم جرى اختزال العراق كله في عبارة واحدة: أسلحة الدمار الشامل.
منذ تلك اللحظة، لم يعد السؤال يتعلق بصحة الادعاء، بل بوظيفته. فالتاريخ الحديث علّمنا أن واشنطن لا تبحث عن الدليل أو التبرير بقدر ما تبحث عن الإطار الذي يسمح لها بالفعل.
اليوم، تقف فنزويلا في المكان ذاته تقريباً، الذي وقف به العراق. دولة نفطية ضخمة، منهكة اقتصادياً، محاصرة سياسياً، يقودها نظام سلطوي يرفض الانكسار، وتقف على تخوم صراع دولي أكبر من حدودها. الفارق الوحيد هو الجغرافيا، أما المنهج، فقديم حدّ التكرار.
*من العقوبات إلى الخنق*
قرار ترامب تصنيف النظام الفنزويلي كـ"منظمة إرهابية أجنبية" ليس مجرد تصعيد لغوي، بل هو انتقال نوعي في أدوات الصراع. هذا التصنيف لا يُستخدم عادة إلا حين تكون الدولة المستهدفة قد خرجت من خانة الخصم السياسي إلى خانة العدو الوجودي.
بهذا القرار، تصبح كل ناقلة نفط هدفاً مشروعاً، وكل تعامل اقتصادي جريمة، وكل حليف محتمل موضع مساءلة. فجأة، لا يعود الحصار إجراءً اقتصادياً، بل شكلاً من أشكال الحرب غير المعلنة.
فنزويلا، التي يعتمد اقتصادها شبه كلياً على النفط، تواجه اليوم سيناريو الإغلاق الكامل:
ممراتها البحرية مهددة، صادراتها مشلولة، واقتصادها المنهار أصلاً يُدفع خطوة إضافية نحو الهاوية. هنا، لا يعود السؤال: هل سيتدهور الوضع؟ ومتى يبلغ نقطة اللاعودة؟
*الزعيم الذي لا يتنازل… والدولة التي تُدفع إلى الحافة*
تاريخ الأنظمة السلطوية لا يشير إلى نهايات هادئة. فالقادة الذين صعدوا عبر منطق القوة، نادراً ما يغادرون عبر منطق التسوية. نيكولاس مادورو، مثل صدام حسين قبله، لا يرى في التراجع خياراً سياسياً، بل إعلان هزيمة وجودية.
الرهان الأميركي يبدو واضحاً: إما انهيار داخلي تحت ضغط العقوبات، أو تفكك في بنية الجيش، أو لحظة انفجار تبرر التدخل الخارجي. لكن هذه الرهانات، حين تفشل لا تُلغى، بل تُستبدل. وهنا يصبح الخيار العسكري ليس قراراً طارئاً، بل نتيجة منطقية لمسار مغلق.
*النفط… السبب الذي لا يعلن عنه*
في الخطاب العلني، لا أحد يعلن الحرب من أجل النفط. لكن في الحسابات الباردة، يبقى النفط حاضراً دائماً. فنزويلا تملك أكبر احتياطي نفطي في العالم. نفطها الثقيل ليس مجرد ثروة، بل ضرورة تقنية لمصافي جنوب الولايات المتحدة. البدائل موجودة، لكنها أعلى كلفة، وأكثر تعقيداً.
حتى في عالم يتحدث عن الطاقة المتجددة، لم يتخلص الاقتصاد العالمي من اعتماده البنيوي على النفط. ولهذا، فإن السيطرة على الاحتياطيات الكبرى لا تزال جزءًا من الصراع الاستراتيجي طويل الأمد
*حين تُقاس الصداقة بميزان المصالح*
في عالم الجيوبوليتيك، لا تُدار العلاقات بمنطق الوفاء، بل بمنطق الكلفة والعائد. لذلك، حين تُستحضر أسماء روسيا والصين وإيران في سياق فنزويلا، فإننا لا نتحدث عن تحالفات مبدئية أو روابط أيديولوجية صلبة، بل عن *شبكة مصالح متحركة*، تتبدل مواقعها كلما تغيّر ميزان القوة.
الصين، التي تبدو ظاهرياً الشريك الاقتصادي الأهم لكراكاس، لا ترى في فنزويلا سوى مصدر طاقة ضمن محفظة أوسع. اعتمادها على النفط الفنزويلي حقيقي، لكنه غير وجودي، فبكين راكمت مخزونات استراتيجية هائلة، وبنت تنوعاً في مصادر الإمداد يسمح لها بتحمل الصدمات، لا بخوض المواجهات. بالنسبة للصين، النفط مسألة إدارة مخاطر، لا معركة سيادة.
أما روسيا، فتنظر إلى فنزويلا باعتبارها *ورقة ضغط جيوسياسية* أكثر منها حليفاً استراتيجياً. الوجود الروسي في الحديقة الخلفية للولايات المتحدة يحمل قيمة رمزية ورسالة سياسية، لكنه يظل قابلاً للمقايضة. موسكو، المنخرطة في مساومات معقدة حول أوكرانيا، تعرف جيداً أن الجبهات البعيدة تُغلق حين ترتفع كلفة الجبهات القريبة. التاريخ الروسي الحديث يؤكد هذه القاعدة: حين تصبح الصفقة الكبرى ممكنة، تُضحّى بالأطراف.
روسيا تخلت عن نظام صدام حسين حين حانت لحظة القرار، وتخلت عن النظام السوري سياسياً عندما تبدلت شروط اللعبة، رغم سنوات الدعم. وفي ميزان المصالح البارد، لا شيء يمنع تكرار السيناريو ذاته في كاراكاس، إذا ما أصبحت فنزويلا بنداً قابلاً للتبادل على طاولة الصفقات الكبرى.
أما إيران، من جهتها، استثمرت طويلاً في بناء شبكات نفوذ في أميركا اللاتينية، سياسياً وأمنياً واقتصادياً، لكنها اليوم تواجه ضغطاً متعدد المستويات في الشرق الأوسط، حيث تُختبر قدرتها على الحفاظ على مكتسباتها الأساسية. في لحظة كهذه، يصبح التمدد الخارجي عبئاً تفاوضياً، لا رصيداً ثابتاً، ويغدو قابلاً للإدراج ضمن حسابات التهدئة أو المقايضة.
من هنا، فإن السؤال الجوهري لا يكمن في معرفة ما إذا كانت هذه الدول ستدعم نيكولاس مادورو، بل في سؤال أكثر قسوة وواقعية: *هل كلفة حمايته أقل من كلفة التخلي عنه؟*
التجربة التاريخية لا تمنح إجابات مطمئنة للأنظمة المحاصرة. فالدول الكبرى لا تخوض معاركها المصيرية دفاعاً عن حلفاء ثانويين، بل تستخدمهم كأوراق تفاوض في صراعات أكبر. هكذا تُدار السياسة الدولية: الحلفاء يُقاسون بمدى نفعهم، لا بعمق ارتباطهم..