
ناجي الغزي/كاتب وباحث سياسي
في كل الأنظمة التي تعاني حكوماتها من الإفلاس السياسي والفكري، تظهر نزعة خطيرة لدى رأس الهرم في الحكم: مصادرة الجهود، وسرقة المنجز، وتحويل ما هو قائم إلى مادة دعائية تُعرض كفتحٍ جديد أمام جمهورٍ أُنهك من الوعود. هذه الظاهرة لا تعبّر عن نجاح، بل عن خواء. فحين يفتتح رئيس الحكومة مشروعاً يعمل منذ سنوات، أو يعيد قصّ الشريط لمعملٍ قائم، فإنه لا يدشّن مشروعاً بقدر ما يدشّن مرحلةً من التضليل المنهجي.
هناك من يذكر أن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني استلم حوالي 4 آلاف مشروع متوقف من زمن حكومة السيد نوري المالكي، وهو رقم يعكس حجم الجهود التخطيطية التي بذلتها حكومة المالكي. وهذه المشاريع لم تكن مجرد أوراق أو خطط، بل كانت خريطة تنموية جاهزة للتنفيذ، مع مقار ومشاريع محددة وآليات للتنفيذ.
من هذا المنظور، يظهر أن المالكي كان لديه نظرة عميقة لتطوير العراق، واعتمد على التخطيط المسبق ووضع أسس لإنجازات مستقبلية، سواء في البنى التحتية أو الصناعة أو الخدمات العامة. بينما يبدو أن السلطة الحالية، بدل أن تبني على هذا الإرث، تمارس أسلوب إعادة افتتاح المشاريع القائمة وتسويقها كإنجازات شخصية، متجاهلة الجهد الذي سبقها.
إن فهم هذا السياق يوضح أن الوهم الإعلامي للإنجاز ليس نتيجة عمل حكومي جديد، بل هو إعادة تدوير لإرث الآخرين. وهو يضعنا أمام سؤال أساسي: هل الهدف من الإدارة الحالية التنمية الفعلية أم مجرد صناعة صورة إعلامية؟
*الاستعراض التنموي*
لقد أظهر السوداني في أكثر من مناسبة هذا النمط المتكرر من "الاستعراض التنموي"، الذي يقوم على إعادة تدوير المنجزات القديمة وتسويقها كإنتاج لحكومته. مثلاً: في المثنى، افتتح معمل معجون الطماطم الذي يعمل منذ ثلاث سنوات، وفي المحافظة نفسها، زار معمل الأسفلت المؤكسد الذي كان في الخدمة قبل زيارته. وفي البصرة، أعلن عن تشغيل وحدة الأزمرة في مصفى البصرة، رغم أنها تنتج البنزين المحسن منذ شهور. كذلك أعاد افتتاح معمل معالجة الغاز في حقل الحلفاية الذي يعمل بطاقته الكاملة منذ مدة من الزمن، وأعلن عودة شركة بريتيش بتروليوم إلى كركوك رغم أن نشاطها لم يتوقف فعلياً. أما ثلاثة مشاريع بسيطة أخرى، فقد افتتحها عن بُعد عبر دائرة تلفزيونية مغلقة، في مشهد يلخّص زمن الحكم الافتراضي.
هذه ليست تفاصيل تقنية. إنها ملامح ظاهرة سياسية عميقة تُعرف بـ "احتكار الرمزية الإنتاجية"، أي أن السلطة تسعى إلى نسب كل إنجاز إلى رأسها حتى لو لم تصنعه. في أنظمة تعاني من ضعف الأداء المؤسسي، يصبح الرمز الفردي لا الدولة هو منبع كل شيء. وهذا النمط يخلق ثقافة تزييف وولاء قسري، إذ يُجبر الجميع على التصفيق للمنجز المزعوم وإغفال الجهد الحقيقي للعاملين في الميدان، من مهندسين وفنيين وإداريين ووزراء محليين.
الإنجاز الحقيقي لا يُقاس بعدد الافتتاحات، بل بعمق الإصلاحات. ولا يتحقق بمجرد حضور كاميرات الإعلام الرسمي، بل بوجود خطط تنموية مستدامة، ومؤسسات تعمل بمعزل عن نزوات السياسيين. حين يتصدر رئيس الوزراء المشهد كأنه "المهندس والمفتش والمشغل"، فذلك دليل على غياب دولة المؤسسات، وتحولها إلى جمهورية الشخص الواحد الذي يحتكر الضوء ويحجب الآخرين.
*صناعة وهم الإنجاز*
ما يجري في العراق اليوم ليس مجرد مبالغة إعلامية، بل هو تعبير عن أزمة شرعية في الحكم. فحين تفقد الحكومات القدرة على تحقيق تحولات حقيقية في الاقتصاد والخدمات، وأغراق الدولة في الديون الداخلية والخارجية، فتلجأ إلى صناعة وهم الإنجاز. تُعيد طلاء المشاريع القديمة، وتقص الشريط من جديد، وتستدعي عدسات التصوير لتخفي الفشل تحت لافتة “افتتاح جديد”. إنها محاولة لتصنيع الزخم في فراغٍ تنموي مطبق، وإنتاج المعنى من العدم.
لكن أخطر ما في هذه الظاهرة ليس التضليل فحسب، بل طمس روح العمل الجماعي. فحين تُصادر الجهود من الميدان وتُرفع إلى القمة، تُقتل الحوافز في نفوس الكفاءات، ويصبح الصمت هو الخيار الوحيد أمام من يرى جهده يُختزل باسم شخص آخر. هذه المصادرة هي الوجه الإداري للإفلاس السياسي: نظام يسرق العرق، ثم يبيع الوهم.
إن العراق لا يحتاج إلى إعادة افتتاح ما هو قائم، بل إلى إعادة بناء الثقة بين الدولة ومواطنيها. والثقة لا تُصنع بالشاشات أو الأشرطة الحمراء، بل بالصدق في القول والإنجاز. أما التضليل باسم التنمية، فهو شكل آخر من أشكال الفساد، لكنه أكثر خطورة، لأنه لا يسرق المال فقط، بل يسرق الحقيقة.
في زمن الفراغ التنموي، يصبح التضليل مشروعاً وطنياً، ويُحتفى بالماضي كأنه مستقبل.
وهنا، لا نكون أمام حكومةٍ تبني، بل أمام سلطةٍ تُعيد تمثيل نفسها في مسرحٍ من رماد.