
ناجي الغزي/كاتب وسياسي
يبدو المشهد السياسي الشيعي في العراق اليوم وكأنه يقف فوق ركام ثلاث تجارب ثقيلة حملت عناوين مختلفة، لكنها انتهت جميعاً بالسؤال ذاته: *من هو القادر على إدارة الدولة؟*
فمن استقالة عادل عبد المهدي تحت ضغط الشارع، إلى إزاحة مصطفى الكاظمي وسط صراع الإرادات، وصولاً إلى التحوّل المدهش في مسار محمد شياع السوداني بين بداية متواضعة ونهاية صاخبة. كل ذلك جعل الإطار التنسيقي أمام امتحان غير مسبوق، امتحان يختبر قدرته على إنتاج قيادة لا تُعيد إنتاج الفشل.
والمفارقة أن الشيعة، وهم الكتلة الأكبر والأكثر مسؤولية بحكم المعادلة الدستورية والواقع السياسي، يجدون أنفسهم اليوم ليس أمام مهمة اختيار رئيس وزراء فحسب، بل أمام مهمة إعادة تعريف معنى القيادة ذاتها: هل هي زعامة تدار بالمزاج الحزبي؟ أم مسؤولية تستند إلى إرث حضاري وروحي وانتماء تاريخي يفرض العمل بمعايير أعلى من المصلحة الضيقة؟
*اختيار خارج الحسابات القديمة*
التحدّي هذه المرة لا يتعلق بمتطلبات اللحظة الداخلية فقط، بل بما يفرضه الخارج من معادلات متغيرة. المنطقة أمام إعادة رسم صامتة، والعراق أصبح نقطة التقاء مصالح دولية وإقليمية متداخلة. لذلك، فإن رئيس الوزراء المقبل يجب أن يكون ابن هذه الحقيقة. قارئاً لمزاج العالم، عارفاً بما يُراد للعراق أن يكون، مدركاً حدود الحركة الممكنة دون أن يتحوّل إلى مجرّد صدًى لإرادة الآخرين.
لم تعد البلاد تحتمل "الزعيم المُصوِّر" الذي يقيس نجاحه بعدد الصور مع القادة الأجانب ولا ذلك الذي يلاحق المؤثرين والبلوكرية في المنصات بحثاً عن شعبية وهمية. العراق بحاجة إلى قائد يشتغل بصمت، يتفاوض بصلابة، ويدرك أن إدارة الدولة ليست عرضاً تلفزيونياً، بل مسؤولية أمام الله والتاريخ والناس.
*تجارب الأمس ومعادلات الغد*
في زمن عادل عبد المهدي، كانت البلاد بحاجة إلى انفتاح هادئ يوازن بين الداخل والخارج. وفي عهد الكاظمي، كانت التحديات أكثر صخباً، والشعار الذي اتفق عليه كان نزع فتيل الانفجار الداخلي. أمّا مع السوداني، فقد كان المطلوب ترميم الثقة في النظام السياسي وإعادة الإطار إلى مركز القيادة. لكن المرحلة القادمة مختلفة:
العراق يحتاج شخصية *قادرة على فهم العالم قبل فهم نفسها*، شخصية تقرأ التحولات الدولية والإقليمية، وتأثير الفواعل الداخلية، لا تنشغل بالروايات الإعلامية ولا تنجرّ وراء بطولات مصطنعة. شخصية تعرف وزن الدولة الحقيقي، لا الدولة التي تصنعها الدعاية أو تروّجها المكاتب الإعلامية المموّلة.
*المعادلة الحاسمة في الحكم*
في ظل التعقيدات المتصاعدة التي تحيط بالعراق داخلياً وإقليمياً، هناك ثلاثة ملفات ستحدد مصير الحكومة المقبلة:
*أولاً: الملف الخارجي* العراق لا يعيش في فراغ، بل في منطقة تتقاطع فيها المصالح وتتصادم فيها الإرادات. لذلك يحتاج الى سياسة متوازنة تضع المصلحة الوطنية فوق محاور الصراع، دون تراجع عن ثوابته ودون التفريط بهويته، أو جره إلى صراعات الآخرين.
*ثانياً: الملف الأمني*
لا يمكن لأي مشروع وطني أن ينهض فوق أرض رخوة تهتز عند أول صدام أو اختلاف. الأمن ليس مجرد ملف عابر، بل هو القاعدة التي تُبنى عليها الدولة أو تُهدم بانهيارها. فلا دولة بلا أمن، ولا أمن بلا قرار مركزي حاسم يضع حداً فاصلاً بين شرعية السلاح وسلطة القانون، وبين هيبة الدولة وتعدد مراكز القوة.
*ثالثاً: الملف الاقتصادي*
لا يمكن لأي دولة أن تضمن استقرارها دون اقتصاد راسخ يُدار بعقل وطني، اقتصاد يوازن بين دور الدولة ومسؤوليات السوق، بعيداً عن إغراق القطاع العام بالترهل أو الانزلاق نحو خصخصة فوضوية تصنع ثراء القلّة وتترك عامة الناس على هامش الحياة. إن بناء مستقبل العراق يبدأ من هيكل اقتصادي عقلاني، عادل، يحفظ الثروة الوطنية ويخرج من الريعية المفرطة، ويضع التنمية في خدمة المجتمع لا في خدمة حلقات رأس المال الطارئ.
كفى مغامرات، كفى استنساخاً لنماذج فاشلة، وكفى تغطية العجز بقصص نجاح تُصنع في غرف الإعلام.
*ما الذي نريده من الاطار؟*
ما نريده اليوم من الإطار التنسيقي ليس مجرد اسم يعتلي رئاسة الوزراء، بل إرادة ناضجة تعيد تعريف مفهوم القيادة في دولة أنهكتها التجارب المتعثّرة. نحن لا نبحث عن واجهة سياسية جديدة، ولا عن شخصية تُحسن الظهور وتفشل في الفعل، بل نريد قائداً يعرف أن الدولة ليست منصة للاستعراض، ولا ميداناً لتصفية الحسابات، بل مسؤولية ثقيلة تحتاج صدقاً وشجاعة وحكمة.
نريده قائداً صادقاً، لا مهرّجاً سياسياً يقتات على ضجيج الإعلام. نريده واقعياً يفهم حدود القوة ومساحات المناورة، من دون أن يخضع لمزاج الخارج ولا أن يستسلم لضغوط الداخل. نريده قوياً من غير غرور، ثابتاً بلا تمرد، قادراً على فرض القانون من دون أن يتحوّل إلى خصم لشعبه أو تابع لحزبه.
نريده رجل *مشروع دولة*، لا رجل نزوات أو تسويات مؤقتة. نريده يرى الحقائق كما هي، لا كما تقدّمها الدعاية، ولا كما تُجمّلها المكاتب الإعلامية، ولا كما يهوى الشارع في لحظة غضب أو تعب.
الوقت لم يعد رفاهية. الناس ضاقت ذرعاً بالانتظار، وتعبت من حكومات تُدار بالتسريبات وتُقاس بالاتهامات لا بالبرامج. لقد انتهى رصيد الأعذار، ولم يعد في جعبة الدولة متسع لتجربة رابعة تكرر إخفاقات التجارب الثلاث السابقة. الجميع يراقب اليوم بقلق، والتاريخ يكتب بصمت لا يجامل أحداً: إمّا أن يختار الإطار قائداً يكسر دائرة الفشل، أو سيجد نفسه يعيد إنتاج المأساة ذاتها، لكن بوجوه جديدة لا تغيّر شيئاً من طبيعة الخراب.