
كتب / جعفر العلوجي
في الموروث العربي تروى قصة رمانة ابنة شيخ القبيلة التي لدغتها عقرب، فاستدعى والدها حكيما لا يعرف إلا علاجا واحدا الشفط، أصر الحكيم على طريقته ورفض كل البدائل، حتى خضع الشيخ مرغما خوفا على حياة ابنته وبعد فترة لدغت العقرب مؤخرة العجوز مرجانة، فاستدعى الشيخ الحكيم نفسه وعندما ظن الطبيب أن المريضة هي رمانة عاد ليتشبث بعلاج "الشفط فقط" لكن حين رأى أن المصابة هي مرجانة قال سريعا: “هناك طرق أخرى” عندها أجبره الشيخ على الالتزام بما كان يفرضه سابقا، ليكشف زيف ادعائه ويظهر أن المشكلة لم تكن في الطب بل في الهوى والمصلحة .
هذه القصة ليست مجرد حكاية شعبية، بل هي مرآة للواقع السياسي في العراق اليوم، حيث ما تزال الدولة أسيرة “حكماء” لا يعرفون من إدارة الحكم سوى أسلوب واحد مهما تغيرت الظروف وتعقدت الأزمات نمط واحد في المحاصصة، نمط واحد في تشكيل الحكومات، نمط واحد في توزيع المناصب والموارد، ونمط واحد في مواجهة الفساد وكأن العراق بلد بلا بدائل، وكأن الزمن متوقف عند طريقة واحدة لا يجرؤ أحد على تجاوزها .
الأزمات الاقتصادية المتراكمة تعطل المشاريع، هدر الثروات، انهيار قطاعات أساسية، كلها تحولت إلى "مرجانات" سياسية ثقيلة لا ينفع معها أسلوب “الشفط” ومع ذلك لا تزال بعض القوى تتمسك بالطريقة ذاتها وتكرر الأدوات نفسها غير آبهة بأن العراق يتغير، وأن الشعب لم يعد يصدق الشعارات .
في كل محطة سياسية يتبين أن الطبقة المتنفذة كانت تعرف الحلول البديلة، لكنها لم تستخدم لأنها كانت تهدد مصالحها، فملف الكهرباء مثلا لم يحل لأن الحلول المتاحة كانت تعني خسارة أبواب نفوذ واقتصاديات ظل، وملف الفساد لم يعالج لأن من بيده القرار جزء من النظام الذي يستفيد من بقائه معطلا أما ملف الإصلاح الإداري، فهو مؤجل منذ سنوات لأن تطبيقه يعني انهيار بنية المحاصصة .
تماما كما في القصة حين يتعلق الأمر بـ“رمّانة” أي بالمكاسب والمغانم يتمسك البعض بطريقة واحدة وحين يصل الأمر إلى “مرجانة” أي حين يصبح العبء ثقيلا على الدولة يبحثون فجأة عن حلول جديدة وكأنها لم تكن موجودة أصلًا .
العراق اليوم يحتاج إلى قادة يفكرون بطريقة مختلفة، قادة لا يكررون أساليب الماضي ولا يختبئون خلف وصفات سياسية عقيمة، البلد لم يعد يحتمل التجارب ولا يحتمل حكمة من نوع “الشفط السياسي” التي لم تنتج سوى مزيد من الخلل والتأخير والانقسام .
الوقت ليس وقت تبرير بل وقت تغيير فاما أن تتبدل الأدوات وتتحول الدولة إلى منظومة فعالة تستجيب للأزمات أو سنجد أنفسنا أمام “مرجانات سياسية” أكبر بكثير مما يمكن احتماله .
العراق بحاجة إلى طبقة قيادية جديدة لا تخضع للهوى، ولا تختار الحلول على أساس المصلحة ولا تكرر عبارة الحكيم: “لا أعرف إلا هذه الطريقة” لأن البلاد لديها آلاف الطرق لكنها بحاجة لمن يجرؤ على فتحها .