
ناجي الغزي/ كاتب وباحث سياسي
منذ إعلان تعيين مارك سافايا مبعوثاً خاصاً للرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى العراق، انطلقت أبواق الإعلام البعثي في نوبة فرح هستيرية، وكأن “المنقذ” المنتظر قد نزل من السماء ليعيدهم إلى الحكم! صفحاتهم ومواقعهم امتلأت بالتحليلات المراهقة والتهليلات الثأرية، وكأن تعيين موظف أمريكي في مهمة سياسية محدودة هو بداية “انقلاب أبيض” على النظام الذي قام على أنقاض بعثهم الأسود.
لكن الحقيقة أبسط من كل هذا الوهم، مارك سافايا ليس مبعوثاً لبعث جديد، بل صفقة تجارية مغطاة بورق السياسة. فالمبعوث الجديد ابن الأصول العراقية الذي بنى شبكة علاقاته في أروقة الحزب الجمهوري يدرك أن العراق اليوم ساحة مفتوحة لكل من يجيد لعبة المصالح.
هو يدرك أيضاً أن ترامب، الذي يحكم بعقلية "رجل الصفقات"، لا يرسل مبعوثاً للحوارات النظرية، بل مندوباً لتفعيل شبكة مصالح اقتصادية تخدم فريقه الانتخابي والمحيطين به من المستثمرين.
*النموذج الجديد للدبلوماسية الأمريكية*
أن سافايا يمثل نموذجاً جديداً للدبلوماسية الأمريكية القائمة على “المرونة الاقتصادية” لا على القوة العسكرية، وأن واشنطن في إدارة ترامب تسعى إلى استعادة نفوذها في الشرق الأوسط عبر أدوات القوة الناعمة، لا عبر الجيوش والأساطيل. لكن خلف هذا التوصيف الواقعي، يبرز وجه آخر للقصة: مارك سافايا ليس دبلوماسياً ولا سياسياً محترفاً، بل هو رجل أعمال يبحث عن نفوذ تجاري داخل بلدٍ منهكٍ بالفساد والانقسام.
إذن، المهمة ليست سياسية بقدر ما هي استثمارية، الحديث عن "الشراكة مع بغداد" يعني عملياً فتح الأبواب أمام الشركات الأمريكية الخاصة، لا المؤسسات الحكومية، للعودة إلى قطاعي النفط والطاقة والاتصالات تحت غطاء التعاون الاقتصادي. وهنا تكمن حساسية الموقف العراقي.
فالعراق، الذي يعيش اليوم مرحلة ما قبل الانتخابات البرلمانية، ويواجه ضغط العقوبات الأمريكية على بعض فصائله السياسية، يجد نفسه أمام اختبار جديد: هل يتعامل مع سافايا كممثل رسمي لدولة كبرى؟ أم كمبعوث غير رسمي جاء ليجسّ نبض السوق السياسية والاقتصادية العراقية؟
*مشكلة الخطاب السياسي العراقي*
المشكلة أن الخطاب السياسي العراقي منقسم إلى درجةٍ تتيح لأي مبعوث أجنبي أن يلعب دور "الوسيط والمرجع" بين الأطراف العراقية نفسها. فبينما يفترض أن تكون بغداد صاحبة المبادرة، نجدها تُستدرج إلى ردّ الفعل. تتحدث الفصائل عن السيادة، بينما تفاوض الكتل الاقتصادية على العقود، ويستثمر كل طرف الحدث بطريقته.
وفي المقابل، فإن تعيين سافايا جاء في ظل شلل مؤسساتي داخل واشنطن نفسها، إغلاق حكومي، موازنة متعثرة، وبيروقراطية دبلوماسية تمنع التواصل مع شخصيات عراقية مدرجة على قوائم العقوبات. لهذا اختار ترامب إرسال مبعوث "حر الحركة"، لا يخضع لقيود الخارجية الأمريكية، ويمكنه التواصل مع الأطراف التي لا تستطيع السفارة الأمريكية أن تقترب منها رسمياً.
بمعنى آخر، مارك سافايا هو المبعوث غير الرسمي إلى الملفات غير المعلنة، يتحرك في الظل، ويتحدث مع الجميع، ويعود إلى واشنطن محمّلاً بتقارير ومقترحات يمكن توظيفها اقتصادياً أو سياسياً وفق مصلحة البيت الأبيض.
أما المقارنة بينه وبين بول بريمر، فهي مقارنة غير صحيحة وفي غير محلها. بريمر جاء على رأس سلطة احتلال لإعادة تشكيل الدولة، أما سافايا فجاء برخصة اقتصادية من إدارةٍ سياسية تبحث عن عوائد وصفقات، لا عن دستور جديد، ولا عن تشكيل حكومة، بريمر كان “حاكم العراق”، وسافايا هو "مندوب الصفقات".
*العراق ساحة نفوذ تجارية*
سافايا لم يأتِ ليُسقط النظام، ولا ليُعيد رسم خريطة النفوذ في بغداد. جاء ممثلاً لإدارة ترامب الباحثة عن موطئ قدم جديد في ساحة عراقية تزدحم بالمصالح الأمريكية والإيرانية والتركية. لكن خلف المظاهر، يقف رجل يبحث عن فرصة شخصية أكثر مما يبحث عن دور استراتيجي.
فـ مارك سافايا رجل صفقات قبل أن يكون رجل سياسة، حاله حال سيده ترامب، دخل اللعبة عبر تمويل حملة ترامب، وقد منح هذا المنصب بعد إلحاحٍ متواصلٍ على ترامب ليعيده إلى دائرة الضوء. ترامب، الذي لا يمنح المناصب مجاناً، ردَّ له الجميل بتعيينه مبعوثاً خاصاً للعراق، كمكافأة انتخابية وردّ دين مقابل دعمه المالي والإعلامي لحملته السابقة.
بمعنى آخر، العراق بالنسبة لسافايا ليس ساحة نفوذ سياسية بقدر ما هو منصة تجارية، يستخدمها ترامب لإرسال رسائل القوة في حملته الانتخابية ضد الديمقراطيين. أما البعثيون الذين يصفقون اليوم، فهم مجرد جمهور ساذج يظنّ أن صفقة في البيت الأبيض ستمنحهم مقعداً في بغداد.
المفارقة المضحكة أن الإعلام البعثي الذي كان بالأمس يصف أمريكا بـ“ دولة الاحتلال”، بات اليوم يتغنى بها كحاملة الخلاص! يا للمفارقة! من الذين انهزموا أمام واشنطن بملابسهم الداخلية حتى الرمق الأخير، إلى الذين يعلقون آمالهم على مبعوثها اليوم، فقط لأنهم يكرهون النظام الذي أسقطهم!
إنه نفاق بعثي سافر بلا كوابح ولا خجل. هؤلاء لا يحبّون سافايا، ولا يؤمنون بترامب، بل يفرحون فقط لأنهم يتوهمون أن كل ما يزعج النظام السياسي الحالي هو انتصار لهم… حتى لو كان القادم محتالاً بربطة عنق.
الحقيقة المؤلمة أن هذه الأصوات لا تزال تعيش في زمن صدام المجرم، تتنفس الحقد على العراق الجديد، وتنتظر أي زلزال خارجي ليفتح لها الطريق نحو الماضي. لكن العراق تغيّر، والتاريخ لا يعود. لا ترامب سيعيدهم، ولا سافايا يملك مفاتيح الجنة السياسية التي يحلمون بها.
فالعراق اليوم أكبر من كل هذه الألعاب الصغيرة، وأوعى من أن يُباع في مزادٍ تجاري اوسياسي بين واشنطن وطهران.
*البعثيون وأوهام العودة*
إنّ احتفال الإعلام البعثي بتعيين سافايا يكشف عقدة نفسية دفينة أكثر مما يعكس وعياً سياسياً. فهؤلاء لم يتصالحوا يوماً مع فكرة أن العراق يمكن أن يُحكم بغيرهم، ولم يقبلوا بعدُ أن زمن الطغيان انتهى، وأن السجون والمقابر الجماعية لم تكن "مجد الدولة"، بل وصمة عارٍ في جبين تاريخهم السيئ.
مارك سافايا سيذهب كما ذهب غيره، لكن البعثيين سيظلون أسرى أوهامهم القديمة، أن أمريكا قد تعيدهم يوماً إلى الحكم! لكن الحقيقة المرّة هي أن التاريخ لا يسترجع ما لفظه، ولا يرحم من يخون وطنه بالأمنيات. وستبقى ضحكات البعثيين المهووسين بالانتقام مجرد صدى لأصوات الماضي المكسور.
أما العراق، فسيبقى عصياً على العودة إلى الوراء، مهما تبدّلت الوجوه وتغيرت الأسماء.
ولكن السؤال المهم، هل سيظل الإعلام البعثي يعيش على فتات النكايات؟ أم سيجد يوماً الشجاعة ليعترف بأن زمن الدكتاتور انتهى، وأن العراق لن يعود إلى الوراء؟ ربما آن الأوان ليُدركوا أن من يراهن على مبعوثٍ أجنبي، إنما يعترف بأن مشروعه مات منذ زمن بعيد.