ناجي الغزي/ كاتب وباحث سياسي
في غياب الرؤية السياسية، يتحول خطّ الخدمة الوظيفي إلى مسارٍ إداري خالٍ من روح القيادة. فبدلاً من أن يكون رئيس الوزراء صانعَ قرارٍ يوجّه دفة الدولة، يصبح مجرد موظفٍ كبيرٍ يدير التفاصيل اليومية دون أن يمتلك قدرة التأثير في المسار الاستراتيجي. وهذا هو المأزق الذي يعيشه محمد شياع السوداني اليوم؛ إذ تُدار حكومته بعقلية "الخدمة العامة" لا "المشروع الوطني"، فيبدو وكأنه يسعى إلى تسيير الأمور، لا إلى إعادة تعريف الدولة.
*الفرق بين الإدارة والقيادة*
وحين تُختزل السياسة في الإدارة، تفقد السلطة مضمونها السيادي، ويتحوّل صاحب القرار إلى منفّذٍ لتوازنات الآخرين. فالمشاريع الخدمية، مهما بلغت، تظل بلا أثرٍ استراتيجي ما لم تُصاغ أو تصنع ضمن رؤية حكمٍ واضحة، فالرؤية السياسية هي التي تضع الخدمة في إطارها الوطني، أما غيابها فيجعل حتى أكثر المشاريع جدية تبدو بلا روح، لأنها لا تنطلق من فلسفة حكم ولا من وعيٍ بالتحديات الكبرى.
والسوداني في هذا الإطار يشبه المدير التنفيذي لشركة مثقلة بالديون السياسية، يحرص على تسيير الأعمال اليومية وتجميل صورة الأداء أمام الجمهور، لكنه يتجنب طرح الأسئلة الجوهرية: إلى أين تتجه الدولة؟ من يملك قرارها الفعلي؟ ومن يستثمر في ضعفها؟
إنّ الإدارة الناجحة لا تعني بالضرورة قيادة ناجحة، فالقيادة لا تُقاس بعدد المشاريع المعلنة أو الزيارات الميدانية، بل بقدرة صاحبها على امتلاك قرارٍ حرٍّ في محيطٍ تحكمه المصالح المتشابكة أكثر مما تحكمه البرامج الحكومية. لأن القيادة تحتاج إلى رؤية، والرؤية تحتاج إلى شجاعة ومواجهة الواقع كما هو يريد، لا كما يُراد له أن يُرى. فـ"خط الخدمة الوظيفي" قد يرضي الجمهور مؤقتاً، لكنه لا يصنع دولة، ولا يضمن بقاء السلطة أمام العواصف المقبلة.
*إعلان الحرب بأدوات هشّة*
عندما لا يدرك رئيس الوزراء مصلحته الحقيقية، ويعلن الحرب بأدواتٍ هشّةٍ وقابلةٍ للثني والانكسار، فإنه لا يغامر بمستقبله السياسي فحسب، بل يضع الدولة بأكملها في مهبّ المجهول. فحين تغيب الرؤية السياسية النافذة، ويتراجع الوعي بالتوازنات المحلية والإقليمية، تتحول القرارات الحكومية من خطوات مدروسة إلى ردود فعل مضطربة تُدار بالعاطفة لا بالعقل، وبالمزاج لا بالمصلحة الوطنية.
السوداني، الذي جاء من بوابة "الإطار التنسيقي"، وجد نفسه منذ البداية مثقلاً ً بتناقضات القوى التي دعمته، و وجد نفسه اليوم أمام مأزقٍ مركّبٍ بين مطالب الداخل وضغوط الخارج. حاول أن يكون رجل الدولة الجامع بين مختلف التوجهات، لكنه أخفق كثيراً، لأنه في لحظة مفصلية اختار أن يواجه خصومه دون أن يمتلك بنية سياسية صلبة تحميه، أو تحالفاً استراتيجياً متماسكاً يسانده. والنتيجة أن أدوات المواجهة التي يعتمدها تبدو هشّة أمام تعقيدات المشهد، لأن كثيراً ممن يُفترض أنهم في خندقه، هم أول من سيتراجعون عند أول اختبارٍ جدي.
*الحرب السياسية والرهان الخاطئ*
إنّ الحرب السياسية لا تُخاض بالولاءات المؤقتة ولا بالتحالفات المترددة، بل برؤيةٍ عميقة تستند إلى مشروع دولة واضح، لا إلى توازنات أو تجمعات آنية ومصلحية تُبنى على المجاملة والخشية من خسارة هذا الطرف أو ذاك. والسوداني اليوم، وهو يواجه مرحلة شديدة الحساسية من تاريخ العراق، يحتاج أن يدرك أن الرهان على شخصيات متقلبة أو أطرافٍ تبحث عن مصالحها الخاصة، هو رهانٌ خاسرٌ بالضرورة، لأن السياسة في العراق لم تعد تُدار بالشعارات بل بتقاطع المصالح الإقليمية والدولية.
وما يزيد من خطورة المشهد أن السوداني يواجه تآكلاً تدريجياً في رصيده الشعبي، مقابل تصاعد نفوذ قوى أخرى تعمل بصمتٍ على إضعافه من الداخل، بينما هو يظن أنه يمسك بخيوط اللعبة. إن الانكشاف السياسي للحكومة، وتراجع هيبتها أمام الأزمات الأمنية والاقتصادية، و إغراق البلاد في الديون الداخلية والخارجية، مقابل فعاليات ومشاريع مستعجلة اغلبها لم تكتمل بعد، جعلا من أي قرار يصدر عنها يبدو وكأنه استجابةٌ لضغطٍ لا الى رؤية وطنية.
*الصدام مع المالكي مغامرة*
أما على الصعيد الانتخابي، فإن السوداني يواجه معادلة دقيقة: فكلما ازداد احتكاكه بدولة القانون، تراجع دعمه داخل القاعدة الشيعية التقليدية، وكلما حاول الاقتراب من القوى المدنية أو السُنّية والكردية لتعويض ذلك، ازداد حرجُه داخل بيئته الأصلية. هذه الموازنة الصعبة تجعل مستقبله السياسي مرهوناً بقدرته على إعادة هندسة تحالفاته، لا على مستوى الخدمة الإدارية، بل على مستوى الرؤية السياسية التي تُقنع الداخل والخارج بأنه رجل دولةٍ لا موظف مرحلة.
وفي خضم هذا المشهد المربك، اختار السوداني فتح جبهة صراعٍ علنية مع المالكي، ما جعل التحدي داخل “الإطار التنسيقي” أكثر وضوحاً. فخلافه مع “دولة القانون” لا يُختزل في تباين الأساليب، بل يعكس صراعاً على زعامة البيت الشيعي وإدارة العلاقة مع القوى الإقليمية. وإن لم يُحسن السوداني احتواء هذا الصدام، فإنه يغامر بتفكيك الركيزة السياسية التي أوصلته إلى السلطة
فالمستقبل السياسي للسوداني لن يُحسم بإنجازاتٍ خدمية تُعرض في المؤتمرات، بل بقدرته على أن يثبت أنه قادر على الإمساك بخيوط اللعبة في بلدٍ تحكمه المعادلات الإقليمية أكثر مما تحكمه البرامج الحكومية. وإن لم يُدرك ذلك قريباً، فستبتلعه ماكينة التوازنات ذاتها التي صعد عبرها إلى الحكم.
*ضعف الموقف السيادي*
أما في الملفات السيادية، فقد أظهرت مواقف السوداني قدراً من التردد لا يليق برئيس حكومةٍ يسعى إلى ولاية ثانية. فأنقرة تواصل خرق السيادة العراقية وتتحكم بالمياه والحدود، فيما تقلّص واشنطن حضورها الدبلوماسي وتُدير نفوذها عبر مبعوثين، بينما تراقب طهران المشهد بحذرٍ متزايد، تنتظر ما ستؤول إليه التوازنات في بغداد. وفي الداخل، تتنازع الأحزاب الشيعية والسنية والكردية على حصص السلطة، في وقتٍ تتراجع فيه هيبة الدولة وتزداد الأزمات المالية والاقتصادية تعقيداً.
إنّ من يعلن الحرب دون قراءةٍ دقيقةٍ للميدان، يُشبه من يرفع السيف في وجه العاصفة. والسوداني، إذا لم يُعد حساباته سريعاً، ويُعيد بناء أدواته السياسية والإدارية على أساس القوة لا الولاء، فسيجد نفسه في عزلةٍ تتقدمها الأطراف التي صنعها هو بنفسه. فالمعادلة بسيطة: من لا يمتلك رؤيةً تحميه، سيتحول إلى أداةٍ في رؤية الآخرين.