
ناجي الغزي/ كاتب وباحث سياسي
قرار واشنطن إرسال حاملة الطائرات "جيرالد فورد"، الأضخم في تاريخها البحري، إلى السواحل الفنزويلية لا يمكن اعتباره خطوة عسكرية عابرة في إطار “مكافحة المخدرات”، بل مؤشراً على مرحلة جديدة من الصراع الجيوسياسي، في نصف الكرة الغربي.
التحشيد الأمريكي، المصحوب بطائرات الشبح وغواصات نووية، يعيد مشهد الحرب الباردة لكن في زمنٍ تتداخل فيه ملفات الطاقة والتنافس مع الصين وروسيا، والتمدد الإيراني في أمريكا اللاتينية. في المقابل، تتابع البرازيل بقلق خشية أن يتحول الكاريبي إلى بؤرة اشتعال إقليمي.
فنزويلا الغنية بالنفط والمثقلة بالعقوبات تبدو اليوم نقطة تقاطع المصالح الدولية، حيث تسعى واشنطن لاستعادة هيمنتها في منطقةٍ كانت تعتبرها “حديقتها الخلفية”. وهكذا، لا تبدو المسألة مجرد مواجهة محدودة، بل منعطفاً استراتيجياً يعيد رسم خريطة النفوذ في القارة.
*أولاً: ما الذي يحدث في سواحل فنزويلا؟*
قبل أيام أُرسلت إلى المنطقة حاملة الطائرات USS Gerald R. Ford مع مجموعة قتالية مرافقة، وانضمامها إلى أسطول من السفن والطائرات والمهمات الاستخبارية التي كانت تعمل أصلاً قبالة السواحل الفنزويلية والكاريبية. الإعلان الرسمي يربط هذه الحركة بعمليات مكافحة تهريب المخدرات ومراقبة البحار، لكن منطق القوة يشير إلى هدف سياسي إضافي: تكثيف الضغوط على نظام نيكولاس مادورو، وربما خلق ظرف مبرر للتدخل أو ضرب مواقع أرضية لاحقة.
التحريك الكبير للأصول: حاملة طائرات متقدمة، وطائرات بي-1 وبي-2، وطائرات إف-35، وغواصات وسفن مرافقة، هذه تكاليف سياسية ومادية عالية جداً، لا تُبذَل لمجرد مطاردة قوارب تهريب صغيرة. هذا المستوى من الانتشار يعطي واشنطن خيارين متوازيين: الضغط السياسي المكثف على فنزويلا واجبارها على (تبديل مسار الحلفاء، وعزلة دبلوماسية، وفرض عقوبات موسعة)، أو خيار استخدام القوة الجوية والبحرية المستهدفة، كما تُشير تقارير تفيد بأن الإدارة الأمريكية تدرس استهداف منشآت مربوطة بإنتاج الكوكايين داخل فنزويلا. وأن تُسخَّر هذه الإمكانات للإطاحة بنظام مادورو، أو لاستنزاف قدراته، فهما أقرب إلى السياق الراهن.
*ثانياً: الحكاية أكبر من حرب على المخدرات*
هناك تراكب مصالح: النفط الفنزويلي (أحد أكبر الاحتياطيات في العالم)، والنفوذ الإقليمي، والمنافسات الداخلية الأمريكية حول من يحدد سياسة المنطقة. إن عرض مادورو تقديم النفط أو التفاهمات الاقتصادية لم يخمد قرار واشنطن؛ لأن سياسة الضغط قد تكون مدفوعة أيضاً بمطلعين سياسيين داخل الإدارة الذين يرون في تغيّر النظام مفتاحاً لإعادة هندسة المصالح في أمريكا اللاتينية (ومن بينهم أصوات معروفة في الكونغرس واليمين الأميركي). علاوة على ذلك، تبدو الاتهامات المتبادلة بين واشنطن وبوجوه سياسية في كولومبيا جزءاً من نفس المشهد؛ حيث فرضت واشنطن مؤخراً عقوبات على رئيس كولومبيا وهو مدعاة تصعيد إضافي في العلاقات الإقليمية.
*ثالثاً: إيران في الحديقة الخلفية*
أحد أكثر العوامل التي تُغذّي القلق الأمريكي اليوم هو التمدّد الإيراني في أمريكا اللاتينية، ولا سيما في فنزويلا. فواشنطن ترى في التقارب بين طهران وكاراكاس تهديداً مزدوجاً: استغلال إيران للموارد الفنزويلية، خصوصاً احتياطيات اليورانيوم، لدعم برنامجها النووي. وتحويل فنزويلا إلى منصة نفوذ إيراني في القارة الأمريكية، ما يُمثّل تحدياً استراتيجياً مباشراً للولايات المتحدة في نطاق نفوذها التاريخي.
تحاول واشنطن تقويض شرعية التقارب الإيراني ـ الفنزويلي عبر اتهامات مباشرة لإيران وحزب الله بالضلوع في شبكات تهريب المخدرات. وفي هذا السياق، أعلنت الولايات المتحدة عن استهداف سفينة محمّلة بالمخدرات، زعمت أنها مرتبطة بشبكات تمويل تابعة لحزب الله اللبناني. ووفقاً لتقارير إدارة مكافحة المخدرات الأمريكية، فإن العملية تمثل رسالة سياسية بقدر ما هي أمنية، إذ تؤكد واشنطن أن حزب الله أصبح لاعباً محورياً في تجارة المخدرات العابرة للقارات، مستفيداً من تحالفه مع فنزويلا لتأمين خطوط تمويل غير مشروعة تمتد من أمريكا اللاتينية إلى الشرق الأوسط.
هذه الادعاءات الامريكية، تقرأ من منظور استراتيجي، هذا الحدث كرسالة أمريكية مزدوجة: فهي تستهدف نظام مادورو بشكل مباشر، لكنها في الوقت نفسه توجّه إنذاراً إلى طهران مفاده أن تمددها داخل القارة لن يُترك دون ردّ. فإيران، وفق الخبراء، تسعى إلى إيجاد ملاذ آمن في القارة اللاتينية لمواجهة العقوبات الغربية، وتستخدم تحالفها مع فنزويلا كوسيلة اختراقٍ جيوسياسي واقتصادي للالتفاف على النظام المالي الدولي.
*رابعاً: سيناريوهات المواجهة ومداخلها التكتيكية*
1.السيناريو الأقل حرارة، هو استمرار ضغط بحري وجوي مصحوب بعقوبات اقتصادية ودبلوماسية، مع عمليات استهداف محدودة لمراكب ومنشآت مرتبطة بالتهريب. هذا يبقي المواجهة دون دخول قوات برية أمريكية واسعة ويتيح للولايات المتحدة «تهجير الضغوط» على النظام الفنزويلي.
2. السيناريو الوسيط، غارات جوية محكمة ضد منشآت تصنيع/تخزين مخدرات داخل فنزويلا وعمليات قصف دقيقة تسعى لتقويض قدرات التهريب، مع احتمالية ردود انتقامية من طرف كارتلاتها المسلحة أو حرس حدود فنزويلي.
3. السيناريو الأعنف، يكون تدخل برّي أو محاولة إسقاط النظام بدعم خارجي وبقوة مركّزة، وهو خيار يواجه تكلفة مريعة: احتلال برّي يحتاج إلى عشرات آلاف الجنود، ويوميات مقاومة شعبية مسلحة قد تطيل الصراع سنوات وتحمله إلى كامل القارة. المستخدمون الإقليميون البرازيل، المكسيك، دول الأنديز سيجدون أنفسهم في موقف حرج بين رفض التدخل واحتمال الانهيار الأمني عبر الحدود. تحذيرات البرازيل من امتداد شرارة الحرب عبر أمريكا الجنوبية ليست خطاباً بلا وزن؛ إنها اعتراف بالتداعيات الممكنة على الاستقرار الإقليمي.
*خامساً: دور اللاعبين الخارجيين: الصين وروسيا وإقليمياً*
لا ينبغي توقع مشاركة عسكرية مباشرة من الصين إلى جانب فنزويلا في حال حصل تصعيد أميركي كبير؛ مصالح بكين في المنطقة تركز بشكل أساسي على الاقتصاد والموارد، وهي تتجنب الدخول في صراعات نووية أو عسكرية مباشرة بعيداً عن حدودها. روسيا، من ناحية أخرى، قد تختار مدّ نظام مادورو بأسلحة أو خبراء لوجستيين لخلق قدرة ردع أو لإطالة أمد المواجهة. لكن مهم جداً: إمداد السلاح لا يعني دخولاً مباشراً في قتال مفتوح مع واشنطن؛ كلا الخصمين يفترضان حسابات مرتفعة. لذلك الأوضح أن الدعم الخارجي سيبقى على مستوى تزويد وتهريب خبرات وتكنولوجيات لوجستية واستشارية، لا مواجهة نظامية بين قوى عظمى في المنطقة. (هذا التقدير يستند إلى قراءة سلوك القوى خلال أزمات موازية).