النظام السياسي في العراق... بين فقدان الثقة ودوامة الإخفاق

حسن درباش العامري

لم يعد العراقي يثق في النظام السياسي القائم، ليس لأنه فشل في تحقيق وعوده فحسب، بل لأنه كرّس ذات المساوئ التي ثار الشعب ضدها قبل أكثر من عقدين. وكأن الزمن دار دورته ليعيد إنتاج نفس المأساة بأسماء وشعارات جديدة. فالنظام الذي جاء بعد عام 2003 لم يتمكن من بناء دولة قادرة على النهوض، ولا على حفظ كرامة المواطن أو استعادة ثقته، بل راح يكرر أخطاء الماضي بأدوات أكثر دهاءً ووجوه أكثر إزعاجًا.

لقد كان العراقي يأمل أن يسقط نظام الاستبداد ليولد نظام الحرية والعدالة والمساواة، لكن ما وُلد كان خليطًا مشوّهًا من الطائفية والمصالح والحزبية الضيقة. حتى بات مجرد سماع أسماء بعض السياسيين يثير في النفس شعورًا بالقرف والاشمئزاز، لأنهم اختزلوا الوطن بمكاسبهم، وتاجروا بآلام الناس وأحلامهم تحت لافتات المذهب والقومية والمنطقة. فكان نظاما منحرفة لايقوى على بناء اي ركن من أركان ماهدمته الحروب التي كانت هواية النظام السابق وبعدها حروب الحقد والغلو العربي الذي دفع لنا إلى الحرب الامريكيه والصهيونية والا ربيع من العقول الاستعمارية ،

والأدهى أن أخلاق المجتمع نفسه بدأت تتأثر بهذا الانحراف. فحين تفسد القمة، يتسرب الفساد إلى القواعد. وحين تُهان القيم في قاعات البرلمان، ينعكس ذلك على الشارع، فيتغير سلوك الناس وتتبدل طبائعهم. لقد أصبحنا نرى الفرد العراقي غارقًا في صراع البقاء، يلهث وراء لقمة العيش في بيئة سياسية خانقة، حتى تراجعت المروءة وتبددت روح التعاون التي كانت تميز هذا الشعب.

والمؤلم أكثر أن المواطن العراقي يُجبر في كل دورة انتخابية على الاختيار بين مجموعة من المرشحين لا يمتلك أغلبهم مؤهلات فكرية أو كفاءة إدارية، بل يتم الدفع بهم إلى الواجهة بسبب انتماءاتهم الطائفية أو المناطقية أو العشائرية، لا لجدارتهم أو نزاهتهم.بل حتى أصبحنا اليوم نرى عينات جديدة من المرشحين والمرشحات من أشخاص تدور حولهم شبهات الانحراف والتفاهة، وهكذا يتكرر المشهد المأساوي: برلمان يضم من لا يمثل الوعي الشعبي، وحكومة تُدار بمنطق المحاصصة لا بمنطق الدولة. لقد تحولت الانتخابات إلى سوق للمزايدات، لا إلى أداة لتجديد الدماء السياسية أو لإصلاح الواقع المتعب.والعجيب بالأمر أن هنالك دول إقليمية او دول مجاوره قد تمتاز بضروف قريبه الظرف العراقي بنت دول مؤسساتية قويه ومتطورة واقرب مثال هي الجمهوريه الاسلاميه الايرانيه ،فرغم العداء الصهيوامريكي لها فهي تقف شامخه دوله منتجه قادره ولها صوت مؤثر كل هذا بسبب حنكة قيادتها ودراستها وأخلاقها ..

أما أمريكا، التي جاءت تحت شعار “التحرير والديمقراطية”، فقد تحولت بدورها إلى رمزٍ للخذلان. فبعد أن وعدت ببناء نموذج ديمقراطي يقتدي به الجوار، تركت وراءها نظامًا طائفيًا محكما ومشلول الإرادة، تحكمه أحزاب متنازعة وولاءات متقاطعة، حتى غدا العراق نموذجًا للتشظي والتراجع لا للبناء والنهضة.

لقد كان العراقي يحلم أن يرى بلاده تنهض كما نهضت بعض الدول المجاورة، لكنه استيقظ على واقعٍ أكثر ظلمة، جعل الكثيرين ينظرون إلى أوضاع الجوار بشيء من الحسرة والاشمئزاز. فالعراق الذي كان يومًا منارة فكر وحضارة، أصبح اليوم يعاني من فوضى سياسية وأخلاقية واقتصادية لا تليق بتاريخه ولا بشعبه.حتى أصبحت سياسة الرشى والواسطة والقمسيون والمشاريع الوهميه والمشاريع المبالغ بكلفها ظاهره مقبوله ومعتاد عليها !!

إن استعادة الثقة المفقودة لا يمكن أن تتحقق إلا بتغيير جذري، لا في الوجوه فحسب، بل في الفكر والمنهج والنية. فالإصلاح الحقيقي يبدأ من الاعتراف بالفشل، ومن إزاحة من جعلوا من السياسة وسيلة للفساد لا وسيلة للبناء. وما لم تُكسر حلقة الولاءات الضيقة والطائفية المقيتة، سيبقى العراق يدور في ذات الدائرة المغلقة، بلا أفق ولا أمل. من

ملامح التغيير المطلوب

إن العراق اليوم لا يحتاج إلى تجميل الوجوه، بل إلى ثورة في الفكر والممارسة. فالتغيير الحقيقي لا يأتي من تبديل الأسماء، بل من إعادة بناء الوعي الشعبي الذي يُحسن الاختيار، ويحاسب، ولا يُخدع بالشعارات.

إن أولى خطوات الإصلاح تبدأ من كسر قاعدة الولاءات الضيقة التي جعلت الانتماء للمذهب أو العشيرة أو المنطقة أهم من الانتماء للوطن. فحين يُنتخب النائب لأنه ابن العشيرة لا لأنه صوت للعقل، تضيع الدولة بين صفقات المنافع وولاءات الانغلاق.

على القوى السياسية أن تدرك أن الشرعية لا تُمنح إلى الأبد، وأن الشعب الذي صبر طويلاً بدأ يفقد صبره وثقته. فالمواطن العراقي لم يعد يبحث عن الشعارات، بل عن من يرمم جسور الثقة، ويعيد للدولة هيبتها، ويضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار.

كما أن إعادة هيبة العملية الانتخابية تمر عبر تشريع قوانين حقيقية تضمن العدالة في التمثيل، وتمنع تسلل الجهلة والانتهازيين إلى مواقع القرار. فالديمقراطية لا تُقاس بعدد الصناديق، بل بنوعية من يصعد إليها. ولا يمكن لوطنٍ مثقل بالجراح أن ينهض ما دام يُدار بعقليات لا ترى أبعد من حدود الحزب والمصلحة الشخصية.

إن التغيير المطلوب ليس حلمًا بعيد المنال، لكنه يحتاج إلى وعي جماعي، وإرادة وطنية صادقة تُخرج العراق من هذا النفق المظلم نحو أفق دولة مؤسساتية مدنية عادلة، تُحكم بالعقل لا بالغرائز، وبالكفاءة لا بالمحسوبية، وبالضمير لا بالمصالح.

وحينها فقط... يمكن للعراقي أن يستعيد ثقته بوطنه، وبنفسه، وبغده.

إرسال تعليق

أحدث أقدم