حسين الذكر
لم تكن المرة الأولى التي تجرني قدماي جراً نحوه ، إذ وجدته ملقى على كتفي وبين أجنحتي بصورة لم يكن بد لي فيها .
وضعتُ كامل قواي ولملمت ما تبقى من جروحي المنكوءة للأبحار نحوه .
على مشارف الطريق وبين ملايين السابلة التي أدلفتُ بين طوابيرها كنت أتحسس بشغف ما استحال إلى بوصلة منلوجية ، قطعت بقية أفكاري ، إذ بلغ حدَّ الاتصال وما يشبه حالة الوصال بيننا .
افتكرت في جدولة ما تبقى من ذكرياتي أو ما دون من مذكراتي على لوح خشبي تعرض للاحتراق مرات ومرات .
حتى أخذتْ تتبخر فيه المدونات على شكل أجنحة محلقة لا تستأذن الرحيل مع أنها مصطبغة بلوني منذ تباشير المسير .
حيث أيقنت أنها لن تفلت من مداري مهما أشرابت بالإرتفاع كما أني لا أغادر شرنقتها أبداً .
قد تطورت الأحداث أكثر من لقاءاتنا السابقة .
حيث ازدحم الموج المتلاطم برؤية لم يعد للبصر قدرة استيعابها .
سيما وأن كلكل الدمع لم يبق مساحة لحرية الحدقات على مستوى التعبير ولا التفكير أو التقطير .
وذلك أضعف معان الاستذكار .
لم تكل قدماي ولم يتوقف نضح خلاياي تحت أشعة الشمس اللاهبة وهي تحرق ما تبقى من سعرات حرارية مكنونة في ذاتي المتمردة مع كل بوادر الاستسلام التي خيمت على محيايَّ .
ما إن طالعتهُ عن بعد مسافة بعيدة ، تكاد تحصي بين طياتها الموت والحياة . حتى شهقت لها أنفاسي وجداناً أغرق مسامع الآخرين غدوت فيه كأني وحيداً في خلوتي معه .
لم يعانقني ولم يمتلك تلك القدرة التعبيرية التي ما زالت أتمتع بها .
لكن شيء من الاغتراب لم يخالجه نحوي ظلت تلك المساحة الخالية مملؤة بمادة الجذب التلقائي الذي لا أملك تفسير له .
برغم كل الوصلات والصلات والجينات الرابطة بيننا منذ مشيئة الخلق حتى قيامته التي سوف لن أعتمد نظام معين لبلوغ عتبتها إذ لم يعترني خوف ما تجاه تلك التهديدات ولا التطمينات، التي طالما جلدت بها مسامعي منذ الصغر حتى نقش الحجر .
تدافعت مع الآخرين وأشرئبت أعناقي لرؤيته مع إني أعلم والآخرين بأن لا مكان ثابت أو معين هو فيه .
كلما زاد التدافع والتباري الانعتاقي استغفلني الدمع بسيل عرمرم زاد مطباتي بطين لازق لا يمكن قلع منغرساتي منه بيسر.
فكلما اقتلعت جزء تاه حدَّ الغوص جزء آخر مني حتى انصهر مع بوتقة الآخرين .
لم أكن اجتماعي الانصياع في أخذ مكان ما ورقم معين بين حفاة كثر ، التفوا واخذوا يحومون حولي بصوة أحسست برغبتهم الجامحة للاقتراب والاغتراف مني مع أن لا امتلك شيء مما يصبون إليه عندي سوى نحب معتق كنت أرمي بقاياه على جادة سبل السابلة .
إذ تجشم بعضهم لملمة قطرانه التي لم تبخرها أشعة الشمس ولا الأجواء الخانقة بمعترك الأنفاس برغم كل جمالية الطريق سيما للمنكوئين مثلي .
تحدّثَ برهة مع النفس . لعلها زهقت من تصوراتي أو من عظيم توسلاتي التي ارتسمت بوضوح على مشارف محطات اللقاء فضلاً عما تجلى منها في ذروة الاقتراب .
أشعر بثقل اللحظة انحنى راسي دون أي إشارة أو ايمائة مني أو تحت حياء عيون المتربصين والراصدين .
حاولت قدر الامكان تصبير النفس وتشجيعها بل تذكيرها بواقعية الذات التي ينبغي أن تثبت بأقل تقدير عند معترك التعبير الميداني .
حاولت أن أتبرأ من ذاتي المنكسرة والإيحاء للآخرين بحميمة لقاء رهباني لا قرب مسبق فيه ولا معرفة من أي نوع تعتريه .
سيما بعد أن وجدتهم يتزاحمون الصفوف خلفي كأنهم يأتمنوني لصلاة الغائب .
خجلت من نفسي هددتها : ( ويحك إنك في محراب لا تهاون ولا تهادن فيه ، اثبتي قليلا حتى تنزوي الشمس خجلاً منا خلف تلك الأستار المشيدة للذرف المنلوجي ، دون أن تدون كلمة واحدة أو تشيد دلالة تدل على هذا المعنى) .. الذي التقطته بذروة انكسار الذات التي جئت أحمل أثقالها طوال طريق متعرج شائك مزدحم لا نهاية له إلا من أنفاس ٍ كانت تشدني شدا كالتحام الأرحام بعد وجد الفراق .
يا الله .. كم كانت التعابير شيقة كم شعرت باعتصار أفرغ كل ما في أعماقي من تساؤلات لم أجد لها أجوبة . فثمة حميمة فرضت نفسها من أول اللقاء حتى آخر مشوار لم يتم فيه اللقاء . هنا تكمن عليّة دموعي التي لم تنفك في البكاء عليه .
.