*ترامب ولعنة إبستين: حين تنقلب الديمقراطية الأميركية على ذاتها*




ناجي الغزي/كاتب وباحث سياسي


منذ أن اقتحم دونالد ترامب المشهد السياسي الأميركي، وهو لا يتصرف كرجل دولة بل كمتمرّد دائم على الأعراف. لكن ما نشهده اليوم لا يُعد تمرّداً فقط، بل انعطافة خطيرة نحو تصدّع داخلي في النظام الديمقراطي الأميركي، خاصة حين تتشابك شخصيته الشعبوية مع فضيحة إبستين الأخلاقية، والردّ المؤسسي المريب عليها.

هذا المقال هو محاولة لتفكيك شبكة التواطؤ، والتعتيم والانحدار المؤسسي الذي يُعيد تعريف الديمقراطية الأميركية بوصفها ديمقراطية "مشروطة"، إن لم تكن وهمية في جوهرها، حين تُعلَّق من أجل رجل، ويُمنع الإعلام من النطق، وتُقمع المؤسسات باسم الإنقاذ من "المؤامرة الليبرالية".

قضية جيفري إبستين – الثري الأميركي الذي مات في زنزانته تحت ظروف غامضة بعد اتهامه بإدارة شبكة استغلال جنسي لقاصرات – ليست مجرد فضيحة عابرة. بل هي *بوابة جهنمية* تنفتح على شبكة نخبوية من السياسيين، ورجال الأعمال، وشخصيات نافذة تورطت في صفقات مريبة. وعندما ظهرت أدلة تشير إلى علاقة ترامب بإبستين، لم يسارع الأخير إلى النفي فقط، بل بدأ حملة منظمة لطمس الرواية. 

بدلاً من الرد، أطلق هجوماً استباقياً على الإعلام، متهماً الصحافة بـالتحيّز والتضليل. وأخرج من أرشيفه رسائل قديمة يتبرأ فيها من إبستين، رغم أن الصور والمراسلات القديمة تثبت عمق العلاقة. وقبل كل شيء، عطّل أي محاولة مؤسسية للتحقيق، عبر السيطرة على الأدوات الأمنية والسياسية. هنا ندرك أننا لا نتعامل مع شخص يخشى الفضيحة، بل مع رئيس سابق يستخدم بنية الدولة للدفاع عن نفسه، كما لو كانت ملكاً شخصياً.


*الكونغرس في إجازة عن الديمقراطية*


المفترض أن تُشكّل أي اتهامات أخلاقية بهذا الحجم، بحق شخصية بارزة كانت على رأس الدولة، مادة كافية لعقد جلسات استماع في الكونغرس، أو فتح لجان تحقيق، أو حتى دعوة عامة للرأي العام.

لكن ما حدث أن الكونغرس قدّم عطلته الصيفية هروباً من الاستحقاق، في مشهد يُظهر كيف أن الانقسام الحزبي العميق جعل من السلطة التشريعية رهينة شعبوية ترامب وضغط قاعدته اليمينية.

هذا السلوك السلطوي التقليدي:  يدعو الكونجرس للتنازل طواعية عن دوره الرقابي، ليحمي الرئيس الدكتاتور بدلاً من مساءلته. وما يزيد خطورة هذا الانزلاق أن يتمّ في بلد يدعي الديمقراطية وبُني على مبدأ “لا أحد فوق القانون”.


*الدولة البوليسية الناعمة في خدمة الدكتاتور*


عندما يصبح كاش باتل، المقرب من ترامب  مديراً لمكتب التحقيقات الفيدرالي، وتُعيّن "تولسي غابارد" المتحالفة مع حركة MAGA – على رأس الاستخبارات الوطنية، فإن التحول من دولة مؤسسات إلى دولة أفراد قد إكتمل. لم تعد الاستخبارات تتحرك وفق القانون، بل وفق حسابات الولاء. ولم يعد التحقيق في القضايا الكبرى أولوية، بل تشتيت الانتباه بفتح ملفات عمرها خمسون عاماً، مثل اغتيال الزعيم السياسي والحقوقي الأميركي الشهير مارتن لوثر كينغ. كما تفعل غابارد حالياً لإخفاء فضيحة إبستين خلف قضايا “الانقلاب الليبرالي. نحن أمام مشهد غير مسبوق في التاريخ الأميركي: أجهزة الدولة تدار كأدوات في معركة شخصية، لا وطنية.


*أوباما والانقلاب المزعوم*


لكي ينجو ترامب من طوفان إبستين، لم يجد وسيلة أنجع من إعادة تدوير خطاب الضحية. فاتهم باراك أوباما، أول رئيس أسود في تاريخ الولايات المتحدة، بأنه قاد "انقلاباً ناعماً" ضده. في الظاهر، يبدو هذا ادعاءً عبثياً، لكنه يستثمر في عمق الذاكرة العنصرية لبعض البيض الأميركيين، ويحيي سردية الرجل الأبيض المهدَّد. والنتيجة:

تحويل أوباما من رمز إلى شيطان، وإسكات النقاش عن إبستين، بتحويله إلى معركة أيديولوجية.

ما يفعله ترامب هنا يُسمى في التحليل السياسي (Deflection) ، أي تحويل الأنظار من الأزمة إلى أزمة مفتعلة، ونجح حتى الآن في ذلك، بدليل اختفاء المطالبات بالتحقيق خلف ضجيج الانقلاب الليبرالي.


*الإعلام… الهدف القادم*


في لحظة فارقة، تم منع صحفيي “وول ستريت جورنال” من تغطية تجمعات ترامب، لأنهم نشروا رسالة سابقة له إلى إبستين. هذا السلوك لم يكن قراراً فردياً، بل تحوّل إلى استراتيجية ممنهجة لعزل الإعلام المستقل وشيطنته، خصوصاً إذا لم يكن جزءاً من ماكينة فوكس نيوز ومثيلاتها.

وللمفارقة، كان ترامب من أكثر الأصوات انتقاداً لتكميم الأفواه في الصين وروسيا، لكنه اليوم يُمارس الفعل ذاته من القمع الاعلامي داخل الولايات المتحدة، بهدوء مُمنهج. والأسوأ من ذلك، أن هذا السلوك لم يُحرّك ساكناً لدى كثير من المؤسسات أو النخب، وكأنّ تهديد حرية الإعلام والصحافة لم يعد خرقاً للدستور، بل مجرد تفصيل سياسي يُدار بالحسابات الانتخابية. إنها مفارقة مرعبة، يُخنق الصوت الحر باسم "حماية الأمة"، فيما تستمر واشنطن في تصدير صورة نفسها كمنارة للديمقراطية.


*الديمقراطيات لا تموت بالسلاح بل بالصمت*


يقول الفيلسوف الأميركي زاكاري ليفتون: "الديمقراطية لا تحتاج إلى دبابات لتموت… يكفي أن تسكت أصوات العقل، وتُخنق الحقيقة، ويُترك الكذب ليعيد تشكيل الوعي."

وهذا بالضبط ما يجري اليوم: الكونجرس الامريكي يصمت، والقضاء يتردد من اتخاذ أي موقف،  الإعلام يُعاقب. والشعب يُخدَّر بخطابات الخوف والتخوين.

اليوم نحن لا نعيش مجرد انحراف سياسي عابر، بل نهاية سردية: نهاية الحلم الأميركي كما رُوّج له. فحين تصبح الحقيقة تهديداً، وتصبح الديمقراطية عبئاً، وتُقدّم المؤسسات نفسها طواعية لحماية الرئيس الدكتاتور… فإننا لا نحتاج إلى انقلاب عسكري، لأن الانقلاب قد تم بالفعل… من الداخل.


*هل يستطيع النظام الأميركي النجاة من ترامب؟*


ترامب ليس فقط ظاهرة سياسية أو شخصية مثيرة للجدل، بل اختبار وجودي للنظام الديمقراطي الأميركي: هل يستطيع هذا النظام أن يراجع نفسه؟ وهل سيتحوّل الصمت إلى مساءلة؟ وهل سيتم فتح ملف إبستين وكشف "قائمة العملاء" مهما كانت الأسماء؟

أم أن أميركا، التي صدّرت الديمقراطية للعالم، ستصبح اليوم نموذجاً لما بعد الديمقراطية:  حيث تُختزل الأمة في شخص معتوه، وتُختطف المؤسسات، وتُدار البلاد كعلامة تجارية باسم "ترامب"؟ الأسابيع القادمة قد تُحدد ليس فقط مصير انتخابات الكونغرس النصفية عام 2026… بل مصير الولايات المتحدة الأميركية نفسها.

إرسال تعليق

أحدث أقدم