هل مات مقتولا ؟ زياد رحباني شيوعي مترهبن !



حسين الذكر


( كم مرة ضحكت مختنقا من الداخل، فقط لأني لا أريد أن أشرح ما لا يُفهم ) ..

قد يشك البعض في طريقة موته .. فلربما كان ضحية مواقفه التي اعتراها بين واقع صاخب وصالح متضارب ظل يصنع فلكه الذي توجه بتسعة وستون عام يقتفي اثر البحر فيها .. كفر بادوات التحري السائدة حتى صنفوه جاحدا .. ثم اعتلى منبرية الوعي راهبا يوخز ضمائر الجاثمين ويعلل نفسه لعلها تتوق نحو منارات ظل قاصدها وان تعرج في سبل شتى .

قد لا نستطيع صد عصافير الحزن من تحليقها فوق الرؤوس الا ان عشعشتها حد الانقياد تسيء للموقف وتحرف بوصلة الوعي التي يجب ان تكون حاضرة مع الانسان كتعبير اسمى في حياة كرمتها السماء .

لم يكن زياد الرحباني حركيا حزبيا مع كل حراكه وتقمص تصريحات سياسية لم تكن ذات جنبة شخصية او نظرة دينية .. بل كان تعبيرا لحرية لبنان كواحة وعي تتربع وسط قحول معتمة من الانقياد والتصحر والانصياع الاعمى .

هكذا صدحت فيروز قبل نصف قرن ترسم ملامح الفجر المرتقب تشنف اسماع التائقين بعيدا عن دهاليز الموت المؤجند .. بعد الاعتزال الفني وانتهاء عهد الرحبانية الابوية ثم اعتكاف فيروز ظل ذلك الصوت الصباحي الصادح حد الاستنشاق يعلوا قمم تيجان الزيف ويخترق ظلامات الاجراءات القسرية التي تريد وئد العقل وتحجيره بزاوية التبعية والتعمية .


بعد نعيه بدقائق هرعت الجموع نحو المشفى بقلب بيروت لا ليلقون نظرة وداع عاطفي فحسب بل اخذتهم صعقت الفقد لمشروع السلام والحرية والمدنية التي آمن بها زياد الرحباني كل يعبر عن انتمائه حيث صوت الانسان المجسدة ببرامج موسيقية ونصوص مسرحية ناصعة التلوين .


نشا زياد وترعرع في بيئة جعلته يتنمط فنيا برحبانية شهيرة اثيرة السطوة على الثقافة العربية فضلا عن الجين الرخامي الحافر بالاعماق الفيروزية بصوتها البعيد الحزين كانه تهاليل عهد جديد فاقت شهرته حتى تخطى فيه الرحبانية بتمرد واضح اخرجها من جلبابها الكلاسيكي ..

كان بعمر سبعة عشر عام حينما تفجرت قريحته عن مراهقة شعرية جريئة بعنوان ( صديقي الله ) ذلك النور الذي ظل ثاقبا صميمه صادحا للسلام للمقاومة وطرد الغزاة حتى اشكل دوره ومتبنياته التي فسرت بقصر نظر في ما كان ( الملحد رحباني ) - كما يتهمه البعض - بقمة تراتيله المقدسة على مسارح كتدرائية او تراجيديا منبرية .

صرح علنا وبجرأة انه شيوعي الهوى بصوت يساري حد التطرف الفني والتذوق اللحني ماضيا نحو التحرير والمقاومة وفلسطين .. لم يكن مجرد عازفا او مسرحيا عابرا بل تجلى بهوية ثقافية تخطت الاجندات والايديولوجيات التقليدية حتى أثار جدلًا بمقالاته الساخرة والحانه المعبرة بمسك ختامها ( هذا حفيد محمد هذا بشائر عيسى ) .. التي لم تفسر برهبانية الانسان وعشق العابد الحر فيما حصرت بضيق الافق المسيطر على المشهد العام باسى .

(هناك قلوب تموت بصمت لأنها اعتادت أن تُكتم الألم حفاظًا على من تحب) .

كل رهبانية هذا المسيحي الفنان لم تتعكر برصاص الغدر والقتل والتهجير او بمشروعية ولده (عاصي) التي خنقتها عبرات لا تحتمل التفسير .. اذ اثبت بمسيرة راجلة حد الغطس بوحل الميدان انه وجد صامت حد التفكير وما اقسى واتعس حيوانية انسان بلا تفكير وان قضى عمره في قداسات وهمية حيث قال الله جل وعلا : ( وتفكروا بخلق السموات والارض ) .

ايجابية تفكيره ترسخت على ارض واقع كان وما زال  مرتع لتعابيره بل انموذجيته المفقودة بمحيط عربي ظل مغلقا حد السبات .. انها فينيقية الحضارة .. انها حزن نورس حالم لم يمارس هواية تخطى المسافات وملامسة السموات الا لعشق انساني ورهبنة لا يعرفها المتحجرون !

تحت وابل دموع المشيعين وحداديته اندس سؤال قد لا يخطر على بال اهل الفن والادب .. يا ترى هل مات الرحباني مقتولا ؟ 

حيث شوهد مرات ومرات يعتلي قمة جبل شاهق - لا يتلصلص - بل يتقد محاولا اصطياد الحقيقة برهبنة ذلك الظلام الدامس الذي خلفته الغارات . منذ الحرب الاخيرة – .. بدا يلملم شتاته ويجمع اوراقه  ماشيا خلف ( ناقة ) الحزن لعلها تضع قدماها على عتبة بوابة طريق ظل ينشده .. احد المقربين الثقات حسم امر سوف لا يحسم  : ( سمعته آخر ايامه يقول ان التوق مرض قاتل لا يفارق المنكوئين والمتطلعين حتى بفراش الموت او على اكتاف المشيعين ).

إرسال تعليق

أحدث أقدم