ناجي الغزي/ باحث سياسي واقتصادي
انتهت الضربات الجوية القصيرة التي شنّتها إسرائيل والولايات المتحدة على إيران في يونيو 2025، ولكن ما تركته من تداعيات استراتيجية على طهران لا يقل أهمية عن الضربات ذاتها. 12 يوماً من المواجهة كشفت هشاشة الدفاعات الجوية الإيرانية، واخترقت المجال الجوي الإيراني بشكل شبه كامل، وأظهرت عجزاً عن الردع الجوي، رغم التطور الكبير في القدرات الصاروخية.
لكن ما هو أخطر من كل ذلك، هو الصدمة السياسية التي تلقّتها طهران من شركائها المفترضين، وعلى رأسهم روسيا، التي اختارت الحياد الصامت، تاركة حليفتها في قلب العاصفة. في المقابل، بدأ التفكير في الصين يطفو على السطح كمصدر بديل لتعزيز القدرات الدفاعية الإيرانية، الأمر الذي يطرح تساؤلات كبيرة حول توازنات القوة وتحالفات طهران في المرحلة المقبلة.
*أولاً: كشف الحساب الاستراتيجي الإيراني*
رغم ما حققته إيران من تطور داخلي في الصناعات العسكرية، خاصة في مجال الصواريخ والمسيرات، فإن الحرب الأخيرة أثبتت أن عنصر الدفاع الجوي كان الحلقة الأضعف.
المجال الجوي الإيراني اخترقته طائرات شبح أميركية وإسرائيلية، واستُهدفت منشآت نووية وحيوية بضربات دقيقة، دون قدرة على التصدي الفوري. هذا الإخفاق فتح في طهران "كشف حساب" قاسٍ داخل مؤسسة الحرس الثوري، وبدأت عملية تقييم شامل للثغرات.
ووفق تقارير استخباراتية وتسريبات إعلامية، فإن إيران فتحت قنوات تفاوض مع الصين لتزويدها بمقاتلات متطورة، وأنظمة دفاع جوي حديثة، في مسعى عاجل لسد الفجوة التقنية التي كشفتها الحرب.
*ثانياً: روسيا ليس حليف بل شريك مصلحي*
على الرغم من أن طهران دعمت موسكو في أوكرانيا بالمسيّرات والذخائر، فإن الكرملين لم يبادل الدعم بالمثل. فخلال الحرب، لم تزود روسيا إيران بمعلومات استخباراتية، ولا سمحت بتسليم منظومات S-400، ولا حتى دعمتها بمنظومات إلكترونية مضادة للطائرات الشبحية.
السبب في ذلك لا يرتبط فقط بانشغال موسكو في أوكرانيا، بل يرتبط أيضاً برغبة روسيا في عدم الدخول في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة أو إسرائيل. بوتين، الذي يسعى لتخفيف الضغط الغربي عليه، يرى في إيران شريكاً يمكن الاستغناء عنه إن اقتضت الحاجة، وليس حليفاً مصيرياً.
*ثالثاً: بكين على خط التسليح*
تاريخياً، احتفظت الصين بعلاقة جيدة مع طهران، لكنها لطالما فضّلت أن تبقي هذه العلاقة ضمن الإطار التجاري أو التقني غير الصدامي مع واشنطن. إلا أن الضربات الأخيرة أعادت فتح قنوات قديمة: إيران طلبت مكونات صاروخية حساسة من السوق الصينية قبل الحرب بأسابيع. وهناك تقارير تشير إلى اهتمام طهران بمقاتلات J-10C الصينية. بينما الصين لم تندد بشكل مباشر بالضربات، لكنها أبدت انزعاجاً دبلوماسياً واضحاً، واعتبرت الهجوم سابقة خطيرة.
لكن بكين لا تزال مترددة في الدخول في شراكة تسليحية عسكرية عميقة مع إيران، لما قد تسببه من توتر مع واشنطن، خاصة أن علاقتها بالبيت الأبيض حالياً في وضع "هش" نتيجة تصاعد الحرب التجارية والتكنولوجية.
*رابعاً: هل تتغير العقيدة الردعية الإيرانية؟*
من اللافت أن إيران بدأت تربط استئناف المفاوضات النووية مع الولايات المتحدة بـ"ضمانات أمنية" بعدم التعرض لهجوم عسكري مستقبلي. هذا التحول، وإن لم يكن انقلاباً على العقيدة الردعية التقليدية، يعكس إدراكاً في طهران بأن أدوات الردع الحالية غير كافية، خاصة في مواجهة القدرات الجوية الأميركية - الإسرائيلية المشتركة.
وبينما تصر إيران على أن العلم النووي لا يمكن قصفه، إلا أن الاعتراف بضرورة "إعادة التفاوض بشروط جديدة" يعكس تغيراً في موازين القوة يدفع إيران لإعادة النظر في أدواتها، أما الخيارات الواقعية أمام طهران فهي:
1. إعادة بناء منظومة دفاع جوي متطورة: يشمل ذلك البحث عن مصادر تزويد جديدة (الصين، كوريا الشمالية، وربما باكستان)، إضافة إلى تطوير المنظومات المحلية.
2. الحفاظ على علاقات متوازنة مع موسكو وبكين: دون إغضاب أي طرف، ولكن مع فرض شروط أكثر وضوحاً في اتفاقات التعاون العسكري.
3. استثمار ورقة التفاوض مع واشنطن لتأمين مكاسب أمنية: لا سيما ضمانات بعدم تكرار سيناريو الضربات خلال فترات التفاوض.
4. تحصين الداخل الإيراني أمنياً وتقنياً: إذ كشفت الحرب عن اختراقات استخباراتية خطيرة داخل المنشآت النووية والعسكرية، لا يمكن تعويضها بالسلاح فقط.
*خامساً: ماهي الضمانات الأميركية؟*
من بين أبرز مطالب إيران لاستئناف التفاوض مع واشنطن، كان "الحصول على ضمانات بعدم التعرض لهجوم أثناء أو بعد المفاوضات". هذه الضمانات التي تُرِك تفسيرها غامضاً قد تشمل:
أولاً: مصادقة الكونغرس على أي اتفاق نووي، وهو ما يُعقّد المسار، خصوصاً مع سيطرة الجمهوريين على مجلسيه.
ثانياً: آلية رقابية دولية تلزم الأطراف بعدم خرق الاتفاق، لكن واشنطن انسحبت من الاتفاقات من جانب واحد.
وبالتالي، يبقى سؤال الضمانات محاطاً بشكوك عميقة: هل هو مطلب تفاوضي تكتيكي؟ أم وهم جديد قد يُفخّخ المسار الدبلوماسي كما حدث في 2018؟
*سادساً: رهانات المرحلة المقبلة*
الضربات الأميركية - الإسرائيلية الأخيرة قلبت الطاولة في طهران. كشفت نقاط ضعف خطيرة، وأعادت رسم حدود الثقة مع الحلفاء. موسكو لم تكن وفية، وبكين لا تزال مترددة، أما طهران فوجدت نفسها مكشوفة، تبحث عن سند، وتعيد رسم عقيدتها الأمنية والعسكرية.
المرحلة المقبلة ستكون اختباراً حقيقياً لقدرة إيران على تجاوز الهشاشة التي كشفتها الحرب، ليس فقط عبر تحديث سلاحها الجوي، بل عبر إعادة ضبط تحالفاتها، وضبط إيقاعها الاستراتيجي على إيقاع عالم لم يعد يقبل بحلفاء ضعفاء أو ردع نظري.