ناجي الغزي/باحث سياسي واقتصادي
تشهد الساحة السورية تحولاً استثنائياً مع بداية رفع جزئي للعقوبات الأمريكية، في ظل إشارات سياسية تؤكد أن هذه الخطوة ليست مجانية، بل مشروطة بـ"تحولات استراتيجية" على رأسها التقارب مع إسرائيل. هذا التحول يُقرأ ضمن سياق إقليمي أوسع، تقوده إسرائيل وامريكا، وتحكمه اتفاقيات إبراهام وتوجهات التطبيع العقائدي-السياسي، حيث تجري الاتفاقات الدولية على دمج الأنظمة السياسية العربية ضمن سردية "ديانات إبراهيمية موحدة"، في خطوة تحمل أبعاداً تتجاوز التطبيع السياسي إلى تأسيس نظام معرفي - ديني - أمني جديد في المنطقة.
*أولاً: لحظة رفع العقوبات*
قرار إدارة ترامب برفع جزئي للعقوبات عن سوريا جاء بعد ضغط خليجي مباشر، خصوصاً من السعودية والإمارات، في سياق رغبة هذه الدول في إعادة دمج سوريا في المنظومة العربية والدولية ضمن شروط متفق عليها. لكن رفع العقوبات لا يعني إطلاق يد دمشق، بل إعادة هندسة دورها عبر ثلاث بوابات:
1- بوابة أمنية - إسرائيلية: وتعني ضبط الحدود ووقف التهديدات الإيرانية لأمن إسرائيل من الجبهة الجنوبية. وربما تفاهمات أمنية ترقى الى أبعد من التطبيع وهو بيع أراضي سورية في الجولان, وهذا ما يحدث الان.
2- بوابة اقتصادية - تنموية: ويتم من خلالها فتح المجال أمام الاستثمارات الخليجية والأوروبية مقابل مراقبة صارمة لحركة الأموال.
3- بوابة سياسية – تطبيعية: وهي إشراك سوريا تدريجياً في المسار الإبراهيمي، ولو دون توقيع رسمي، عبر آلية "اتفاق عدم اعتداء" أو خطوات رمزية.
*ثانياً: اتفاقيات إبراهام – تطبيع عقائدي*
اتفاقيات إبراهام التي بدأت كمعاهدات سلام بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، تحوّلت إلى مشروع سياسي عقائدي تحت مظلة "الديانات الإبراهيمية"، حيث يجري طمس الفروقات العقائدية والسياسية لتأسيس منظومة رمزية جديدة تُمهد لنظام أمني إقليمي جديد بقيادة إسرائيل وبرعاية أمريكية. كما تصبح الهوية السياسية للدول السائرة في ركب هذه الاتفاقيات، مندمجة في مشروع "شرق أوسط جديد" لا يكتفي بالسلام، بل يسعى إلى توحيد المسارات المعرفية، التعليمية، والمصرفية. حيث تُستخدم هذه السردية كأداة ضغط لتصفية القضية الفلسطينية تدريجياً، وإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمقدّس في الدول العربية.
أما بالنسبة لسوريا، فإن إدخالها في هذا المسار يعني تذويب عقيدة "المقاومة" التي شكّلت جوهر الخطاب الرسمي منذ 1973، وتحويلها إلى "فاعل عقلاني" ضمن معادلة أمن إقليمي جديدة.
*ثالثاً: لعبة الشروط تبدأ بين دمشق وواشنطن*
إن لعبة الشروط التي تُفرضها وأمريكا على سوريا الآن تقوم على معادلة صريحة: رفع العقوبات مقابل خطوات سياسية محسوبة نحو التطبيع. الولايات المتحدة، بقيادة دونالد ترامب، تُدير الملف السوري وفق منطق صفقات، لا سياسات طويلة النفس. وهذا يضع الحكومة السورية أمام مسارين:
المسار الأول- القبول المشروط- وهو ما يعتي التقدّم نحو اتفاق تهدئة أمنية غير مباشرة مع إسرائيل برعاية روسية أو إماراتية. وقبول بمظلة التطبيع الناعم عبر خطوات تقنية (مشاريع طاقة، وحدود منضبطة، وتبادل أمني). والمشاركة في منصات الحوار الإبراهيمي كمراقب دون توقيع رسمي.
أما المسار الثاني: الرفض والمواجهة - التمسّك بخطاب السيادة والتحرير الكامل للاراضي المحتلة، ما يعني الإبقاء على العقوبات وربما تشديدها. وكذلك أي تفكير للعودة إلى محور المقاومة التقليدي، سيلحق بسوريا تبعات اقتصادية وأمنية أكثر تعقيداً.
لكن المسارين كليهما محفوفان بالمخاطر، لأن أي خطوة غير محسوبة قد تعني إما عزلة دولية قاتلة أو فقدان شرعية داخلية في حال التنازل عن القضايا الكبرى كالجولان أو حق العودة.
*رابعاً: الدور الخليجي*
الحكومات الخليجية لم تعد فقط "تدفع باتجاه انفتاح سوريا"، بل باتت تشكّل آلية ضغط غير مباشرة على دمشق لقبول النموذج الإبراهيمي الجديد. هذا الدور يتجلى في: تمويل إعادة الإعمار مقابل شروط سياسية دقيقة. وربط المساعدات الاقتصادية ببنود أمنية تطبيعية (مثل وقف نشاطات إيرانية في الجنوب) . وتسويق الخطاب الإبراهيمي كمشروع استقرار إقليمي في الإعلام والسياسات الثقافية والدينية. وهذا يُدخل سوريا في اختبار صعب: كيف تعود إلى الجامعة العربية دون أن تذوب هويتها السياسية أو تفقد أوراقها الإقليمية؟
*خامساً: موقف تركيا من التطبيع السوري - الإسرائيلي*
ترى أنقرة أن الساحة السورية امتداد مباشر لأمنها القومي، بفعل الجغرافيا وخطر المشروع الكردي المدعوم أميركياً، وعلى رأسه "قسد". لذلك تعتمد تركيا على فصائل المعارضة لإدارة مناطق نفوذها في الشمال، وتسعى للحفاظ على حضورها السياسي والعسكري ضمن أي تسوية مستقبلية، بما يضمن توازن القوى مع إيران وروسيا.
وبالرغم من العلاقات الدبلوماسية والتجارية القائمة بين تركيا وإسرائيل، فإن أنقرة ترفض أي تطبيع سوري- إسرائيلي يتم خارج تنسيقها، خاصة إذا رعته واشنطن أو العواصم الخليجية. أنقرة تعتبر نفسها "ضامناً إقليمياً" أساسياً، وتخشى أن يُستغل التطبيع لإعادة تموضع خصومها مثل "قسد" أو بعض العشائر العربية المرتبطة بالخليج.
في المقابل، تنظر إسرائيل بريبة إلى النفوذ التركي، خصوصاً دعم أنقرة لحماس ووجود قادتها في إسطنبول. وتعارض تل أبيب إشراك تركيا في إعادة هيكلة الجيش والأمن السوري، خشية اختراق تركي - إخواني لبنية الدولة الجديدة.
تركيا تعتبر نفسها "الضامن الإقليمي" الأساسي لأي مسار سياسي في سوريا، وأي تجاوز لها يُعد تقليصاً لنفوذها الاستراتيجي. رفض أنقرة لإدخال سوريا في اتفاقات إقليمية برعاية أميركية – خليجية – إسرائيلية دون إشراكها، خاصة في ظل منافسة محتدمة على من يرث فراغ النفوذ الإيراني في سوريا.
الولايات المتحدة تدرك أهمية الدور التركي في كبح روسيا وإيران، لكنها تصطدم معه في الملف الكردي. وفي ظل هذه التناقضات، تحاول واشنطن هندسة تسوية تحفظ التوازن، دون إقصاء تركيا، لكنها أيضاً لا تمنحها صكّ التأثير الحصري في مستقبل سوريا.
*سادساً: مستقبل سوريا بين التموضع والمساومة*
ما يحصل اليوم ليس مجرد إعادة إعمار أو انفتاح اقتصادي. إنها لحظة إعادة تعريف الدولة السورية: هل تعود كدولة ذات سيادة، أم تُعاد برمجتها ضمن هيكل جديد من التحالفات والتوازنات؟ نجاح سوريا في هذه المرحلة يتطلب ما يلي:
أولاً: الاعتراف بأن حكومة الجولاني هي حكومة انتقالية وليست سلطة دائمة، وذلك يجب عليها أن تتبنى استراتيجية دبلوماسية مرنة تُراوغ الضغوطات دون الانهيار أمامها. أما الرهان على شخص (أحمد الشرع أو غيره) ليس حلاً بنيوياً للدولة السورية. لان الدول لا تُبنى على النوايا أو الشخصيات بل على المؤسسات، والإفراط في الثقة الشخصية قد يتحول إلى استبداد مقنّع.
ثانياً: إعادة هيكلة النظام الداخلي باتجاه المصالحة الوطنية وعدالة انتقالية حقيقية، وغياب أي مقاربة موحدة بين السوريين بشأن المحاسبة، تتحول العدالة إلى أداة انتقام أو أداة مساومة سياسية.
ثالثاً: الاستثمار في البُعد التنموي كمدخل لتهدئة الداخل وتحقيق شرعية جديدة.
أما الفشل، فيعني أحد أمرين: أما انزلاق نحو تدويل أكثر حدة للملف السوري، وربما تحوله إلى ساحة مساومات إقليمية دائمة. أو تحول الدولة إلى واجهة قابلة للتفكيك أو الاحتواء تحت نظام سياسي – ديني إقليمي جديد. لأن الاستقرار الحقيقي يبدأ من الداخل، لا من بوابة العقوبات أو التسويات الخارجية.