الذكاء الاصطناعي… بين أحلام الاستدامة وكوابيس الانبعاثات حذف ملف واحد قد يمنحك نَفَساً آخر .




إيهاب عنان 

كاتب ومختص في الذكاء الاصطناعي 


 في زمنٍ تتحرك فيه تروس التكنولوجيا بلا كلل، ويقف فيه العقل البشري أمام اتساع الذكاء الاصطناعي، تلوح أمامنا مفارقة حادة؛ كيف نصنع مستقبلاً أكثر ذكاءً دون أن نحمّل بيئتنا أثمان هذا التقدم ؟.

 فبينما يَعِدُنا هذا العصر الرقمي بثورةٍ خضراء، تلوح في الأفق ظلالٌ كثيفةٌ من التحديات البيئية، تُلقي بظلالها على الإنجازات الباهرة وتستوجب وقفةَ تأملٍ عميقة. لقد ألفنا الحديث عن الذكاء الاصطناعي كقوةٍ دافعةٍ للحد من التلوث، من السيارات الكهربائية ذاتية القيادة إلى أجهزة إنترنت الأشياء التي تُقلص البصمة الكربونية. ولعل شرارة هذا التأمل قد انقدحت في روحي خلال اتصالٍ هاتفيٍّ حميمٍ مع صديقٍ عزيزٍ، لم تجمعنا الأيام منذ سنواتٍ خلت، إثر اغترابه عن تراب الوطن. فبينما كان يُثني على إطلالاتي التلفزيونية حول موضوعة الذكاء الاصطناعي، عرّج بحديثه على تغلغل هذه التقنية في مساعي الحد من التلوث البيئي، مُشيرًا إلى وعودها الخضراء. غير أن الصورة، كما تكشفها الأرقام، أكثر تعقيدًا وإثارة للقلق. تقرير الاستدامة السنوي لعام 2025، الصادر عن عملاق التكنولوجيا جوجل، لم يكن مجرد كشفٍ إحصائيٍّ عابر، بل هو جرس إنذارٍ مُدَوٍّ يُعلن عن ارتفاعٍ صادمٍ في انبعاثاتها الكربونية بنسبة 11% خلال عام واحد، لتلامس عتبة 11.5 مليون طن متري من ثاني أكسيد الكربون. هذه القفزة ليست مجرد رقمٍ عابر، بل هي بصمةٌ بيئيةٌ متنامية تُلقي بظلالها على الأهداف المناخية الطموحة، وتُعيد طرح السؤال الجوهري: هل نحن على أعتاب مفارقةٍ حضارية، حيث يُصبح تقدمنا التكنولوجي ثمنًا باهظًا لسلامة الأرض؟ هذه الزيادة، التي تُعزى بشكل رئيسي إلى التوسع الهائل في مشاريع الذكاء الاصطناعي والبنى التحتية المتعطشة للطاقة التي تدعمها، تُلزمنا بإعادة تقييم العلاقة المعقدة بين الابتكار والمسؤولية البيئية، وتدفعنا نحو الغوص في عمق هذه الدوامة المتصاعدة من الانبعاثات.


الزيادة الأخيرة في انبعاثات جوجل ليست مجرد قفزة عابرة، بل هي حلقة في سلسلة تصاعدية مثيرة للقلق. فالتقرير يوضح أن هذا الارتفاع يأتي ضمن سياق ارتفاع إجمالي الانبعاثات بنسبة 51% منذ عام 2019، مما يبعد الشركة بشكل كبير عن هدفها المعلن بخفض الانبعاثات إلى النصف بحلول عام 2030 مقارنة بمستوى 2019. إن هذا التباين بين الطموح والواقع يسلط الضوء على المعضلة الأساسية التي تواجهها شركات التكنولوجيا الرائدة: كيف يمكنها مواكبة التسارع غير المسبوق في تطور الذكاء الاصطناعي، مع الالتزام في الوقت نفسه بمسؤولياتها البيئية؟

لقد حققت جوجل إنجازات لا يمكن إغفالها في مجال كفاءة الطاقة، حيث سجلت انخفاضًا بنسبة 12% في انبعاثات مراكز البيانات، وهي خطوة إيجابية نحو تحسين البصمة الكربونية لبنيتها التحتية الأساسية. ولكن، وكما أشار التقرير، فإن هذا الإنجاز "طغى عليه" الزيادة الهائلة في استهلاك الطاقة الناجمة عن المتطلبات المتعطشة للطاقة لنماذج الذكاء الاصطناعي الضخمة. هنا تكمن المفارقة: بينما تعمل الشركة على تحسين كفاءة عملياتها التقليدية، فإن التوسع في مجال حيوي جديد يستهلك مكاسبها البيئية. والأكثر إثارة للقلق هو ما أشار إليه التقرير من أن بعض الانبعاثات، مثل تلك المتعلقة بمكونات سلسلة التوريد، يتم استثناؤها من الحسابات الأساسية، مما يعني أن الانبعاثات الفعلية قد تكون أعلى بكثير، لتصل إلى نحو 15.2 مليون طن متري. هذا النقص في الشفافية الكاملة يثير تساؤلات حول مدى دقة التقييمات البيئية الحالية ويستدعي مراجعة شاملة لأساليب القياس والتقارير.

الأثر البيئي والاقتصادي والتقني: تحديات متعددة الأوجه

إن تداعيات هذا الارتفاع في الانبعاثات تتجاوز مجرد الأرقام على الورق، لتلامس أبعادًا بيئية واقتصادية وتقنية عميقة:

 * بيئيًا: يتطلب تشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي الضخمة موارد كهربائية هائلة. ورغم استثمار جوجل في الطاقة النظيفة، فإن حجم الطلب على الطاقة يفوق قدرة الشبكات على توفيرها بالكامل من مصادر متجددة، مما يؤدي إلى الاعتماد المستمر على الوقود الأحفوري وبالتالي ارتفاع الانبعاثات الكربونية. هذا يضع عبئًا إضافيًا على البنية التحتية للطاقة ويساهم في تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري.

 اقتصاديًا وتقنيًا ، يفرض التطور المتسارع للذكاء الاصطناعي تحديات غير مسبوقة أمام القدرة على التنبؤ باحتياجات الطاقة والانبعاثات المستقبلية. إن النماذج الحالية للاستهلاك تتضاعف باستمرار مع كل جيل جديد من نماذج الذكاء الاصطناعي، مما يجعل تحقيق الأهداف المناخية للشركات التقنية أمرًا بالغ الصعوبة. كما أن تكلفة تطوير وصيانة البنى التحتية اللازمة لتشغيل هذه النماذج المتطورة تتزايد، مما يضيف ضغطًا اقتصاديًا على الشركات.

 وفي استراتيجيات المواجهة تدرك جوجل حجم التحدي وتواصل استثماراتها في مشاريع الطاقة النظيفة. فقد حققت الشركة زيادة في استخدام الطاقة الخالية من الكربون إلى 66% على أساس ساعي، مع خطط طموحة لإضافة 8 غيغاواط من الطاقة النظيفة الجديدة. كما تعمل على تطوير تقنيات أكثر كفاءة في استهلاك الطاقة، مثل معالجات TPU الحديثة ( Tensor Processing Units)، أو وحدات معالجة الموترات (عمليات على المصفوفات الضخمة) وتحسين كفاءة تدريب النماذج. هذه الجهود، وإن كانت مشجعة، إلا أنها تتسابق مع نمو الطلب على الطاقة الناتج عن التوسع غير المسبوق للذكاء الاصطناعي.


كدعوة لإعادة التفكير ، فإن التوسع في الذكاء الاصطناعي، وإن كان يحمل وعودًا بمستقبل أكثر إشراقًا، يرفع بشكل ملحوظ انبعاثات الكربون لدى كبرى شركات التقنية. هذا الواقع يضعنا أمام تحديات بيئية جديدة تتطلب نهجًا شاملاً ومبتكرًا. لا يكفي الاستثمار في الطاقة النظيفة أو تحسين كفاءة الأجهزة، بل يجب أن نتجاوز ذلك إلى إعادة التفكير في تصميم نماذج الذكاء الاصطناعي نفسها. هل يمكننا تطوير خوارزميات تتسم "بالوعي البيئي"؟ هل يمكننا إيجاد طرق لتدريب نماذج أقل استهلاكًا للطاقة دون التضحية بالدقة أو الأداء؟

يتوجب على قادة الصناعة، جنبًا إلى جنب مع صانعي السياسات والباحثين، التعاون لتطوير معايير عالمية لاستهلاك الطاقة والانبعاثات في قطاع الذكاء الاصطناعي. كما يجب تشجيع البحث والتطوير في مجال "الذكاء الاصطناعي الأخضر" الذي يركز على الكفاءة والاستدامة من مرحلة التصميم وحتى النشر. ربما يكون الحل في نماذج تعلم الآلة الموزعة التي تقلل من الحاجة إلى مراكز بيانات مركزية عملاقة، أو في استخدام مواد أكثر استدامة في تصنيع الأجهزة.


إن قصة جوجل مع انبعاثاتها الكربونية ليست مجرد أرقام، بل هي انعكاس لتحدٍ حضاري يواجه الإنسانية بأسرها. فكيف يمكننا تسخير قوة الذكاء الاصطناعي لتحقيق التقدم والازدهار دون أن ندفع ثمنًا باهظًا من صحة كوكبنا؟ هذا هو السؤال الذي يتعين علينا الإجابة عليه بجدية وإبداع، قبل فوات الأوان. هل نحن مستعدون لإعادة تعريف التقدم بما يراعي حدود كوكبنا؟


في معادلةٍ أُخرى قد تبدو بعيدة المنال، لكنها حقيقةٌ قائمة: نحن، كمستخدمين، لسنا بمعزلٍ عن دوامة الانبعاثات الكربونية لعمالقة التكنولوجيا. فبينما تُلقى الأضواء على مراكز البيانات الضخمة، يغفل الكثيرون عن مساهمتهم الفردية.

تخيل معي للحظة: كم من الملفات "الميتة" التي أكل عليها الدهر وشرب، نُخزنها في خدمات مثل جوجل درايف أو جيميل؟ صورٌ لم تُشاهد، مستنداتٌ بلا قيمة، مقاطع فيديو تُنسى. كل بايت من هذه البيانات الراكدة، غير المستخدمة ولن تُستخدم مستقبلًا، لا يختفي. بل على العكس، يولد هذا "الركام الرقمي" ضغطًا تخزينيًا مستمرًا على خوادم الشركة.

هذا الضغط يعني المزيد من الخوادم والمعدات لاسيستيعاب هذه البيانات المتراكمة. والمزيد من الطاقة لتشغيل وتبريد هذه الخوادم مما يُترجم مباشرةً إلى انبعاثات كربونية أعلى.

تشير التقديرات إلى أن التخزين غير الضروري للبيانات يساهم بشكل كبير في البصمة الكربونية للإنترنت. فكل تفاعل رقمي، من البحث إلى التخزين، يستهلك طاقةً وله بصمة بيئية.

لذا، فإن مراجعة ملفاتنا بانتظام، وحذف ما لا يلزم، وإدارة بياناتنا بوعي، ليست مجرد ممارسة تنظيمية جيدة، بل هي خطوةٌ بيئيةٌ مسؤولة. إنها دعوةٌ لنا جميعًا لنكون جزءًا من الحل، لا جزءًا من المشكلة، في سعينا نحو مستقبلٍ رقميٍ أكثر استدامة.

إرسال تعليق

أحدث أقدم