*إعادة رسم الشرق الأوسط بسلاح الديانات الإبراهيمية*




ناجي الغزي/ باحث سياسي واقتصادي

ما شهدناه حتى الآن من إيقاف لإطلاق النار بين إسرائيل وإيران هو ليس هدنة بالمعنى القانوني والسياسي، بل هو وقف مؤقت للعمليات، أشبه بما يُعرف بـ" التعليق المؤقت للعمليات العسكرية "، أي أن الحرب لم تنتهِ، بل تم تعليقها، في انتظار إعادة التموضع، والتقاط الأنفاس، وبناء سيناريوهات الضربة التالية. إنه أشبه بـ"نهاية فصل لا نهاية حرب".

الولايات المتحدة فرضت وقف إطلاق النار كـ"خط رجعة" بعد أن أدركت أن الضربة على فوردو لم تكن استراتيجية، بل كانت استعراضية. البنية التحتية ضُربت، لكن البرنامج النووي لم يُشلّ. أما إسرائيل، فوجدت نفسها أمام حرب استنزاف تهدد هيبتها وفاعلية "القبة الحديدية"، فقبلت بتجميد الجبهة لا من منطق الانتصار، بل من منطق تفادي الانهيار الداخلي.


*غزة عقدة الغاز ومفتاح التسوية*


المنطقة البحرية المقابلة لغزة، والممتدة إلى سواحل المتوسط، هي الآن واحدة من أغنى حقول الغاز في الشرق الأوسط. والهيمنة على هذه الجغرافيا لا تقتصر على الأرض، بل تشمل أعماق البحر وممرات الطاقة.

ما يجري في غزة ليس فقط استهدافاً لحماس، بل تمهيداً لمشروع إقليمي كبير: نقل غزة من "ملف أمني" إلى "منطقة طاقة"، تحت وصاية عربية مدعومة أمريكياً (مصرية أو قطرية)، واستبدال البنية السياسية الحاكمة فيها لصالح نموذج أكثر ملاءمة للمنظومة الاقتصادية القادمة. الموقف من ترحيل سكان غزة لم يُلغَ فعلياً، لكنه تغيّر في الشكل وتخفف في الخطاب العلني، دون أن يتغير جوهرياً في أهدافه الاستراتيجية. لأن مشروع "إعادة تشكيل غزة" بالقياسات الامريكية والحسابات الاسرائيلية لا يزال قائماً، لكن بأدوات أكثر نعومة، وبآليات إدارية واقتصادية وأمنية،


*إيران: من استهداف المنشآت إلى تهديد النظام*


التصعيد القادم ضد إيران إن وقع، لاسامح الله لن يكون كسابقيه. فالهجمات لن تقتصر على المنشآت النووية أو مراكز تخصيب اليورانيوم، بل قد تتجه نحو مفاصل النظام السياسي ذاته: الهدف سيكون الحرس الثوري، ومنظومات القيادة والسيطرة، والمراكز الأمنية والعسكرية الحساسة. فالهدف المعلن هذه المرة ليس تعطيل برنامج أو إبطاء مسار، بل تفكيك بنية الدولة الإيرانية من الداخل.

لكن هذا المسار محفوف بالمخاطر. فإيران دولة متعددة القوميات: البلوش، الأكراد، الأذريون، العرب، والتركمان... أي اضطراب داخلي واسع قد يفتح الباب أمام انفجارات هوياتية كامنة، ويطلق العنان لطموحات انفصالية طالما حوصرت بقوة الدولة المركزية، ما ينذر بفوضى تمتد من الهامش إلى القلب، وتنعكس على أمن الإقليم كاملاً.


إلا أن هذه الحسابات لا يمكن فصلها عن قدرة إيران الدفاعية، وعلى رأسها قوتها الصاروخية، التي أثبتت قدرتها وقوتها خلال حرب 12 يوم أنها تمثل ركيزة الردع الاستراتيجي، ودرع حماية النظام. فبامتلاكها ترسانة ضخمة من الصواريخ الباليستية والفرط صوتية فائقة السرعة، إلى جانب صواريخ كروز والطائرات المسيّرة الهجومية، اضافة الى الاسلحة الروسية والصينية الجديدة. إيران اليوم تملك قدرة فعلية على الرد السريع والواسع ضد أي محاولة لاستهداف بنيتها السيادية.


تراهن طهران على معادلة مفادها: أن أي هجوم على النظام لن يمر دون كلفة عالية، وأن الجغرافيا الصاروخية الإيرانية الممتدة – من العمق إلى التخوم – تجعل من مراكز القرار العسكري والسياسي في تل أبيب أو القواعد الأميركية في الخليج، ضمن نطاق الرد المضمون. ومن هنا، فإن أية مغامرة في هذا الاتجاه قد تكون الشرارة لحرب إقليمية واسعة، تفوق في مداها كل التجارب السابقة.


*العراق - هل سيبقى ساحة عبور أم يصبح ساحة اشتباك؟*


العراق اليوم ليس فاعلاً عسكرياً، بل ساحة مفتوحة تتقاطع فوقها أجندات الخارج، وتُدار فيها التوازنات بقرارات لا تصدر من بغداد، بل تُفرض عليها. فضعف المنظومة العسكرية العراقية، وارتهانها في جزء كبير منها للدعم الأميركي، إلى جانب اختراق القرار السيادي عبر تدخلات خارجية، جعل من السيادة العراقية عنواناً معلّقاً، لا واقعاً راسخاً.

وفي هذا السياق، تبدو الفصائل المسلحة الموالية لإيران، رغم التزامها الحياد، ولكن لا تستمد قراراتها من الحكومة، بل من منطق الوجود ذاته. فهي تعتبر أن أي استهداف لمنظومتها العقائدية يُعد تهديداً وجودياً مباشراً لها،، وستردّ عسكرياً انطلاقاً من الأراضي العراقية، بغضّ النظر عن موقف بغداد أو حسابات الدولة ومصالحها، في مشهد يُجسّد انفصال القرار العسكري عن القرار السيادي.

ومع تصاعد التوتر، يلوح خطرٌ أكبر: قد يتحول المجال الجوي العراقي إلى ممر للطائرات الإسرائيلية، فيما تعبره الصواريخ الإيرانية في الاتجاه المعاكس. وهكذا، يجد العراق نفسه بين فكي كماشة، عاجزاً عن الضبط أو الحياد، وقد يُزَجّ به تدريجياً في صلب المواجهة الإقليمية دون أن يملك قرار الدخول أو الخروج منها.


*الصراع يدخل مرحلة اللاعقيدة*


السياسة الردعية في المنطقة تتعرض لهزة كبيرة، فـ"القبة الحديدية" فشلت في إثبات تفوقها، و"ضربات العمق" لم تُنهِ المواجهة. هناك ميل نحو مفهوم جديد لـ"السلام الردعي"، وهو ليس سلاماً دائماً، بل تهدئة مشروطة قابلة للانفجار.

ويجري التمهيد لما يسمى السلام الإبراهيمي الموسّع، لا كتحالف سياسي فحسب، بل كـ"رؤية فلسفية" تتجاوز الديانات الثلاث عبر دمجها في إطار رمزي واحد، لتُذيب الفروقات الأيديولوجية وتُمهّد لنظام معرفي واقتصادي يُدار من بوابات كبرى مثل نيوم في السعودية، وغزة الصناعية، والعريش، وسواحل المتوسط.

في قلب هذا المشروع تتجسد نيوم، المدينة الطموحة والطوباوية على الساحل الغربي للسعودية، في ظاهره كمركز نموذج يُعبّر عن "اقتصاد المستقبل"، مبني على التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والطاقة النظيفة . وعلى بعد آلاف الكيلومترات، تُرسم سيناريوهات غزة 2035، بنى تحتية صناعية متقدمة تربطها بخط سكة حديد سريع بمحور نيوم–العريش.

ولكن حقيقة مشروع "الديانات الإبراهيمية"  ليس مجرد مبادرة دينية أو حوار بين الأديان، بل هو مشروع سياسي- فكري بامتياز، يُوظَّف الدين كأداة رمزية لبناء نظام إقليمي جديد، حيث تتحوّل الرموز الدينية إلى مداخل لإعادة رسم خرائط النفوذ، وتُستثمر القيم المشتركة بين الإسلام والمسيحية واليهودية في إطار هندسة جديدة للمنطقة، تُدار بآليات "السلام الاقتصادي" و"العولمة الروحية".


المشروع يُستخدم كغطاء ناعم لتذويب الحاجز العقائدي والتاريخي بين العرب وإسرائيل، وفتح الباب أمامها للاندماج السياسي والاقتصادي والثقافي، ليس فقط كدولة، بل كـ"جزء أصيل من المشهد الإبراهيمي". والإسلام لم يعد أيديولوجيا مقاومة للاستعمار، بل دين سلام متصالح مع الرأسمالية والعولمة،  واليهودية لم تعد محصورة في صهيونية قومية، بل في "الانتماء الإبراهيمي" المتسامح.  لكنها في الحقيقة تُمهد لبنية فوق - دولية تُدار من مراكز سلطة عابرة للحدود.

إرسال تعليق

أحدث أقدم