ناجي الغزي/ باحث سياسي واقتصادي
في الشرق الأوسط، لا تنتهي الحروب فعلياً، بل تدخل في فواصل زمنية يلتقط خلالها الخصوم أنفاسهم ويعيدون التموضع. هذا ما تشي به المؤشرات المتسارعة التي تُظلل الأجواء الإيرانية - الإسرائيلية حالياً. فكل شيء يقال من التسريبات الأمنية، إلى تقارير المخابرات، فتصريحات ترامب وبلينكن، وفي قلب هذا المشهد المتوتر، جاء تقرير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) حول نتائج الضربات على المنشآت النووية الإيرانية، ليقلب الطاولة سياسياً وإعلامياً وعسكرياً، ويهزّ أركان الإدارة الأمريكية، بل ويعيد إشعال فتيل الحرب التي حاول البعض تصويرها على أنها انتهت أو على الأقل هدأت. وهذا يوحي بأننا أمام مشهد لا يُبشر بانتهاء المعركة، بل بتصعيدها نحو مستوى غير مسبوق، قد يتضمن ولأول مرة في تاريخ الصراع، طرحاً جدياً لخيار السلاح النووي التكتيكي.
*ترامب يحذّر... ويفضح*
في تصريح غير مألوف، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن الحرب بين إيران وإسرائيل قد تُستأنف "قريباً"، وهو تصريح لا يُفاجئ أحداً في المنطقة، لكنه يُفاجئ في دلالته ومصدره: ما قاله رئيس الولايات المتحدة ترامب، لم يكن تحليلاً صحفياً، بل خلاصة معلومات استخبارية، وتشخيص لمشهد استراتيجي يتبلور خلف الأبواب المغلقة.
ترامب، الذي حاول النأي بنفسه عن تورط مباشر في التصعيد الأخير، وجد نفسه في عين العاصفة. تصاعدت ضغوط اللوبي الصهيوني ضده، تسريبات تتهمه بالتنسيق سراً مع طهران خلال الحرب، ورسائل مزعومة عبر وسطاء عرب، ومحاولات منظمة لنزع الغطاء الأخلاقي والسياسي عنه باعتباره متساهلاً - بل ومتواطئاً. كل ذلك بهدف واحد: إجباره على منح إسرائيل تفويضاً كاملاً لاستئناف الحرب، ولو منفردة.
*تقرير الـCIA: فشل الضربة على فوردو - وخيار الردع النووي*
في عالم الصراعات الكبرى، لا تكون التقارير الاستخباراتية مجرد وثائق تقنية، بل شواهد سياسية تحدد ملامح اللحظة المقبلة. وتقرير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) الأخير بشأن الضربة الأميركية - الإسرائيلية على المنشآت النووية الإيرانية ليس استثناءً، بل هو إعلان صريح عن فشل مزدوج: عسكري في تحقيق الأهداف، وسياسي في القدرة على تسويق الرواية الرسمية لهذا الفشل.
التقرير، الذي تسرب لوسائل إعلام أميركية كبرى مثل CNN وNew York Times، كشف أن الضربة لم تنجح في إصابة أهم منشآت التخصيب الإيرانية – ناتانز وفوردو – والتي تقع في عمق الأرض وتتمتع بتحصينات تفوق قدرة أقوى القنابل الأميركية التقليدية على الاختراق. فحتى قنبلة GBU-57، التي توصف بأنها جوهرة الترسانة الخارقة للتحصينات، أثبتت محدوديتها أمام العمق والتصميم الهندسي الإيراني.
تسريب التقرير أدى إلى تفجير أزمة سياسية داخلية في واشنطن، دفعت ترامب إلى مهاجمة الإعلام الأميركي بعنف، واتهامه بالخيانة، وصولاً إلى تقليص صلاحيات الكونغرس في الوصول إلى المعلومات الاستخباراتية، ما فتح جبهة صراع دستوري داخلي تهدد استقرار المؤسسة الأميركية نفسها.
وزير الخارجية الأميركي السابق، أنتوني بلينكن، ألمح ببرود دبلوماسي إلى أن القنابل التقليدية لم تعد كافية. أما في الكواليس، فتشير التسريبات إلى أن خيار السلاح النووي طُرح على الطاولة الأميركية، ليس بوصفه مجازاً بل كخطة محتملة – رُفضت سابقاً، ولكن لم تعد خارج نطاق التفكير الآن.
السلاح النووي التكتيكي، بحسب هذه التسريبات، يُقدَّم كخيار يحقق ثلاثة أهداف: ضربة أولى ساحقة، وانهيار معنوي للخصم، وإعادة صياغة معادلة الردع لصالح إسرائيل وأميركا في الشرق الأوسط. إلا أن هذا السيناريو يحمل في طياته ثمناً هائلاً: إذ إن كسر المحظور النووي في إيران سيفتح المجال أمام روسيا لفعل الشيء ذاته في أوكرانيا، وقد يشعل سلسلة ردود فعل في كوريا الشمالية، الصين، وربما باكستان والهند، مما يهدد بانهيار النظام العالمي القائم على فكرة الردع النووي المتبادل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
ما بعد التقرير ليس كما قبله. إيران لم تُهزم، وإسرائيل لم تنتصر، والولايات المتحدة باتت عالقة بين خيارين كلاهما مكلف: إما الاستنزاف البطيء في مواجهة خصم محصن وصلب، أو المجازفة بإشعال حريق نووي في أكثر مناطق العالم هشاشة. في هذا المفترق الحاد، لا تبدو الخيارات مفتوحة بقدر ما هي محكومة بخوفٍ عميق من المستقبل، وانعدام ثقة في جدوى الأدوات التقليدية، ورغبة محمومة في قلب المعادلة... بأي ثمن.
*الابتزاز الصهيوني لترامب*
اللعبة الآن تدور في واشنطن. اللوبي الصهيوني يُصعد ابتزازه لترامب: وذلك من خلال تسريبات، وتقارير استخباراتية، وهجوم إعلامي، واستدعاء لتاريخ التواطؤ مع روسيا وإيران. الرسالة واضحة: إما أن تمنح إسرائيل تفويضاً كاملاً، أو سنقوّض شرعيتك في الداخل الأميركي.
ترامب، من جانبه، حاول الرد بحنق. وصف نتنياهو بـ"المعتدي"، واستخدم ألفاظاً غير مسبوقة في قاموس العلاقات الأميركية - الإسرائيلية. لكن الرجل، رغم غضبه، يدرك حجم النفوذ الإسرائيلي في قلب الدولة العميقة، ويُدرك أن أي خطوة خاطئة قد تُكلفه ليس فقط فرصته السياسية، بل ربما حياته ذاتها.
*لماذا ستعود الحرب؟*
تقاس نتائج الحروب بما تحقق من أهدافها، وليس بالصور والدعاية. وبحسب ما أعلنته "إسرائيل" والولايات المتحدة، كانت أهدافها في الهجوم على ايران واستباقية الضربة كالتالي:
1. تدمير المنشآت النووية الإيرانية: لم يتحقق.
2. مصادرة اليورانيوم المخصب: لم يتحقق، بل تشير تقارير إلى أنه نُقل إلى منشآت نووية سرية اسمها جبل فأس لا أحد يعرف عنها أي شيء وهي أكثر تحصيناً.
3. إنهاء البرنامج الصاروخي الإيراني: فشلت الضربة في التأثير عليه، واستمرت إيران بإطلاق الصواريخ حتى اللحظات الأخيرة قبل وقف إطلاق النار.
4. فرض استسلام سياسي غير مشروط لإيران: لم يحدث، بل رفضت إيران العودة إلى طاولة المفاوضات لحد الان.
5. إسقاط النظام الإيراني أو زعزعة استقراره الداخلي: فشل كامل، بل عززت المواجهة وحدة النظام داخلياً ورفعت من شعبيته في بعض الأوساط.
في المقابل، إيران حققت ما أرادت لتفسها: أن تحتفظ بمنشآتها النووية، ولم تستسلم سياسياً، ولم توقف تطوير برنامجها الصاروخي، وفرضت توازن ردع جديد، كما أنهت تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بقرار برلماني، موجهة بذلك ضربة دبلوماسية للمجتمع الدولي.
*إيران: هدنة بلا أوهام*
أما طهران، فلم تقع في فخ الوهم. منذ اللحظة الأولى، وصفت وقف إطلاق النار بأنه هدنة غير ملزمة. كل المؤشرات على الأرض تُظهر أن البلاد في حالة تعبئة كاملة: وذلك من خلال تعزيزات دفاعية حول المنشآت الحيوية، وجاهزية استخباراتية واحترازات إلكترونية، إعادة انتشار في مراكز القيادة والسيطرة. وهذا ما دفع وزير الدفاع الايراني بزيارة عاجلة الى الصين، وهناك مصادر تؤكد أن طهران تدرس بجدية الحصول على أنظمة دفاع وإنذار متقدمة من الصين- ويشمل على: منظومة الدفاع الجوي HQ‑9 (بما في ذلك النسخة HQ‑9B/BE المشابهة لصواريخ S‑400) ، والحصول على مقاتلات J 10C أو النسخة المصدّرة J 10CE ، ودعمها بأنظمة حرب إلكترونية متقدمة وطائرات AWACS إنذار جوي مبكر. كما تسعى إيران للحصول على صفقة تشمل نحو 36 طائرة، التي أثبتت هذه الطائرة فاعليتها في النزاع الهندي - الباكستاني، بما في ذلك الاعتراضات الجوية على Rafale.
ورغم الهدوء الظاهري في إيران هو هدوء ما قبل العاصفة، لا أكثر. هناك قناعة لدى طهران أن الحرب ستُستأنف قريباً، وربما بشكل أعنف. والأهم أن إيران لا تراهن على حسن نوايا واشنطن أو وساطات أوروبية، بل تراهن على قدرتها الذاتية على الردع، ورد الصاع بالصاعين.