هادي جلو مرعي
أخطر ماقد تواجهه البشرية إنه قد يأتي على الإنسان زمان يقف فيه مقابل حمار، فيغني الإنسان، وينهق الحمار، والصدمة إن الناس سيتجاهلون المغني، ويقولون للحمار: أحسنت!
غياب (التحدي) يعني إنك حين تكون مبدعا، ويحيط بك التافهون من كل جهة، وفي مجال عمل قابل لإستيعاب أنصاف المثقفين والجهلة والمتخلفين، فذلك لايتيح لك أن توجه إبداعك الوجهة الصحيحة، ويكون عليك أن تعمل وتروج للتفاهة في السياسة والخرافة الدينية ليس لأن المشتغلين معك لايفقهون، وهم متخلفون، ولكن أيضا لأن مجموعات بشرية عدة تتلقى التسطيح والتضليل بسذاجة ليس لأنها متواطئة لمصلحة ما، ولكن أيضا لأنها فاقدة للقدرة على التمييز والإكتشاف والنقد الذي يميز الزائف من الصحيح.
ماذا حصل للمجتمعات البشرية مع سقوط الدكتاتوريات التي كانت تطبق على كل شيء في أجزاء من العالم، وتسخر كل شيء لدوام سلطانها؟
الذي حصل إن المنظومة السياسية تفككت، ومعها المنظومة الفكرية والقيمية للمجتمع، وفي مجالات مختلفة، وحصل فراغ صادم تم ملؤه على عجل، فتمكن الآلاف من الفاشلين والتافهين من مؤسسات الثقافة والسياسة، وحولوها الى مستعمرات للقوى النافذة في المجتمع، ولم تعد المعايير القيمية كالأخلاق والكفاءة ذات تأثير، وإكتفى القائمون على الدولة الجديدة بمعيار وحيد هو الولاء والطاعة العمياء للحزب، والجهة التي تدفع بمواليها لتولي مناصب في دوائر الدولة التي توزعت عبر نظام الحصص الطائفية والعرقية، وتجاوزوا ذلك الى ماهو أبعد من الإنتماء الطائفي والعرقي، فلايكفي أن تكون من دينهم ليرضى عنك قادتك، ولامن طائفتهم لتولي منصب ما، ولامن جغرافيتهم لتعمل مع جهة نافذة لديهم، والمطلوب منك أن تكون مواليا لحزب بعينه، فإذا كنت عبقريا في مجال عملك فإن القادة الأفذاذ سيرمون بك في حاوية القمامة، ومالم تعلن الولاء المطلق لجهة بعينها فلن تدفع بك حيث تضمن لها مصالحها، وهذا ينسحب على غالب الفاعلين كما تتبعنا سيرة العملية السياسية منذ العام 2003 وحتى اللحظة الراهنة.
لم يعد لنا من مزاج في العمل لأننا محاطون بهولاء الذين يستقطبون الجهلة أكثر منا، فحين نبدع على وجه الحقيقة نجد إن هناك الكثير ممن يبدعون الزيف والتزلف ليملكوا الأمور، ولكن المشكلة أيضا في المتلقي غير المثقف، فنحن نكتب في مجتمع فقد ثقافته، ولم يعد يقرأ ويميز، ويمكن أن يغريه أي أحد فهو لايميز الحسن من الردئ، وأتذكر قول معاوية لعلي، جئتك برجال لايميزون الناقة عن الجمل، وهذا هو بالضبط مانسميه بنظام التفاهة الذي يصفه (آلان دونو) كجزء من سلوك يعتمده النظام الرأسمالي المتوحش، وقد لايعلم إن ذروة هذا النظام تتجسد في عالمنا المعاصر الذي يريد الراسماليون تتفيه كل شيء فيه، بل وتحويل كل إنسان الى شخص تافه لايميز ولايفكر، بل يبحث عن شهواته وملذاته، ولايريد أن يجتهد، فتسهل السيطرة عليه، وبمعنى آخر فإن التفاهة وسيلة للسيطرة على العقول إتبعها الحكام خلال مئات، وحتى آلاف من السنين مضت، ونحن اليوم نعيش الذروة فقط.لكن التفاهة هي إرث إنساني.