*هل تخوض تركيا مواجهة مع إسرائيل؟ قراءة في ملامح الصراع الصاعد*




ناجي الغزي/ باحث سياسي واقتصادي


في الشرق الأوسط، لا تولد الحروب فجأة، ولا تندلع الصدامات الكبرى بلا تمهيد طويل في الظل. كل مواجهة علنية تسبقها سنوات من التوتر الصامت، من التراكمات السياسية، ومن التحولات في العقيدة الأمنية للدول. وما نراه اليوم من مواقف تركية حادة تجاه إسرائيل، ومن تحضيرات عسكرية غير مسبوقة في أنقرة، ليس ردة فعل لحظية على حرب عابرة بين تل أبيب وطهران، بل نتيجة منطقية لمسار طويل من الانكشاف الاستراتيجي، والتصعيد المتبادل، والقلق العميق الذي بدأت أنقرة تشعر به إزاء مشروع توسعي إسرائيلي لا يعترف بثوابت الجغرافيا ولا بقواعد السياسة الواقعية.


في السابق، كانت تركيا تحافظ على مساحة براغماتية في علاقتها مع إسرائيل. حتى في أصعب اللحظات، بعد قصف غزة أو اغتيالات الضفة أو حادثة "مرمرة"، كانت أنقرة تُبقي الباب موارباً، تتحدث عن الشعب الفلسطيني وتنتقد السياسات الإسرائيلية، دون أن تقطع حبل المصالح الممتد منذ سنوات التسعينات. لكن هذا التوازن الهش لم يعد صالحاً اليوم. شيء ما تغيّر. ليس فقط في إسرائيل، بل في عقل الدولة التركية.


في إسرائيل، لم يعد الطموح الصهيوني مقيداً بالحسابات الجيوسياسية. منذ سنوات، وبصورة متسارعة، بدأت تل أبيب تُخرج من الأدراج خرائط "أرض الميعاد"، وتتعامل معها لا كتراث ديني، بل كمشروع سياسي ذي قابلية للتنفيذ. هذا المشروع، الذي يعبر الفرات ويتنفس من دجلة، لا يمكن لأنقرة أن تراه إلا تهديداً وجودياً مباشراً لها وللمنطقة. فـ"أرض الميعاد" لا تقتصر على الضفة وغزة، بل تمتد – في الرؤية التوراتية المتطرفة – إلى أطراف من جنوبي تركيا. والتهديد عندما يصبح ميتافيزيقياً، لا تعود الردود عليه سياسية فقط، بل أمنية وجودية.


ومن هنا تحديداً بدأ التحول التركي العميق في الرؤية الاستراتيجية وطبيعة التفكير السياسي تجاه إسرائيل والمنطقة بأسرها. لم تعد تركيا تنظر إلى الصراع العربي-الإسرائيلي أو الإيراني- الإسرائيلي كملف خارجي بعيد عنها جغرافياً، بل كمسألة تتصل بالأمن القومي التركي بشكل مباشر، بل وبمستقبل الدور التركي في النظام الإقليمي.

هذا التحول لم يكن وليد لحظة، بل نتيجة تراكم طويل من الإدراك السياسي الصادم، بدأ مع تصاعد سلوك إسرائيل التوسعي والعدواني، ومروراً بالخذلان الأوروبي المتكرر لمساعي أنقرة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وصولاً إلى تزايد دور تركيا في ملفات الشرق الأوسط، من غزة إلى طرابلس، ومن إدلب إلى البحر الأحمر. لم تعد القضية هي الدفاع عن فلسطين فقط، بل حماية الداخل التركي نفسه من سيناريوهات توسعية غير عقلانية. ومن ثم، بدأت القيادة التركية – بهدوء ودون ضجيج في البداية – مراجعة شاملة لعقيدتها الدفاعية. لم تُعلن الحرب، لكنها بدأت تُسلّح نفسها وكأن الحرب حتمية.


تحت هذا السقف، صعدت التصريحات. قال أردوغان صراحة إن إسرائيل هي من يجرّ المنطقة إلى هاوية الحرب، واتهمها بمحاولة تقويض المفاوضات النووية بين إيران وأميركا. ثم دعا الدول الإسلامية إلى فرض عقوبات جماعية عليها، في نبرة غير مألوفة في السلوك الدبلوماسي التركي المعهود. في الوقت ذاته، كانت وزارات الدفاع والصناعة والتكنولوجيا تعمل بصمت: مراجعة نظم الرادارات، وتحديث الطائرات بدون طيار، وتعزيز الذكاء الاصطناعي في القيادة والسيطرة، وتحصين المنشآت الحيوية.

هذه ليست رسائل رمزية، بل عقيدة ردع جديدة. عقيدة تستند إلى قناعة بأن إسرائيل لم تعد دولة تحسب خطواتها ضمن منطق الدولة، بل تتصرف أحياناً ككيان ميتافيزيقي مدفوع بخطاب ديني توسعي، وهو ما يجعل أنقرة ترى أن الدفاع عن النفس يبدأ من الاستعداد لما لا يُتوقع.


لكن، هل يعني هذا أن تركيا قررت فعلاً الدخول في مواجهة مباشرة مع إسرائيل؟

الحقيقة أكثر تعقيداً. أنقرة تدرك جيداً أن الحرب، إذا اندلعت، لن تكون مع إسرائيل وحدها، بل مع تحالف صلب يقف خلفها ويمنحها غطاءً كاملاً، وفي مقدمته الولايات المتحدة. وتركيا رغم قوتها الصاعدة، لا تزال عضواً في الناتو، وتعرف أن أي تحرك عسكري غير محسوب قد يؤدي إلى كسر توازنات معقدة إقليمياً ودولياً.

لذلك، تلعب تركيا اليوم لعبة مزدوجة بمهارة عالية: تبني قوة ردع واضحة، ترسل الرسائل الصلبة، وتعدّ نفسها لأسوأ السيناريوهات، لكنها في الوقت ذاته تُبقي باب التفاوض والوساطة مفتوحاً، كما أظهرت مبادرتها الأخيرة للوساطة بين طهران وواشنطن. إنها سياسة الحافة الذكية: تقف قرب النار، لكنها لا تسقط فيها. تُظهر قبضتها، لكنها لا تضرب… حتى الآن.

وفي خلفية المشهد، يواصل الجيش التركي تدريباته. وتواصل المخابرات رصد التحركات الإسرائيلية. وتواصل الصناعات الدفاعية التركية تطوير منظومات لا تُسوق فقط، بل تبني سيادة. وبينما يتحدث البعض في تل أبيب عن "الخطر العثماني الجديد"، يدرك المسؤولون الإسرائيليون أن تركيا اليوم ليست مجرد خصم سياسي، بل خصم مدجّج، صلب، يعرف ماذا يفعل، ومتى يتحرك.

المنطقة تقف على شفير مرحلة جديدة. وربما تكون اللحظة التي تُطلق فيها إسرائيل رصاصة أخرى – في غزة أو بيروت أو طهران – وتشعل المنطقة بحرب جديدة، هي اللحظة التي تدفع تركيا للتوقف عن الصمت الاستراتيجي. لكن حتى تلك اللحظة، ستظلّ أنقرة تستعد، لأن الصراع لم يعد مسألة فلسطين وحدها، بل مسألة بقاء الدولة نفسها في مواجهة مشروع لا يعترف إلا بالمطلق، ولا يرتدع إلا بالقوة.

إرسال تعليق

أحدث أقدم