السلطة التي تسكننا

كتب رياض الفرطوسي

ليست السياسة سوى السطح المرئي لأزمةٍ أعمق، أزمة فكرٍ ولغةٍ ووعي.

كل ما يبدو خلافاً حول السلطة أو الثروة أو الهوية، ليس سوى عرضٍ لمرضٍ متجذّر في العقل ذاته الذي ينتج الاستبداد ويعيد إنتاجه في كل عصر.

فحين يغيب السؤال، ويُستبدل النقد بالولاء، تصبح السياسة واجهة لخللٍ ثقافي أكثر منها أداةً للتغيير.

منذ منتصف القرن الماضي، لم تتبدل معادلة السلطة في منطقتنا إلا في الشكل.

تغيّرت الوجوه، وبقيت الذهنية واحدة: عقلية الامتلاك لا المشاركة، الطاعة لا التفكير، والولاء لا الإبداع.

السلطة هنا ليست فقط في القصر أو البرلمان، بل في كل ما يحيط بنا: في المدرسة، في اللغة، في العائلة، في العلاقة بين الأعلى والأدنى.

إنها تسكننا بعمقٍ لا نراه، لأننا نحن من يمدّها بالهواء لتتنفس.

أتذكر في منتصف التسعينات، حين دُعيت إلى ندوة في أربيل كان يحاضر فيها الراحل الدكتور أحمد الجلبي، وكان يقدّم مشروعه للتغيير السياسي في العراق.

تحدث بإسهاب عن الاقتصاد وعن بناء مؤسسات الدولة، لكني سألته يومها عن الشق الثقافي في مشروعه، عن الوعي الذي سيحمل هذا التغيير ويمنحه معنى.

ابتسم وقال لي:

"هذا مجال عملي، أما الثقافة فهي مجال عملكم أنتم، النخب والمفكرون."

كانت جملة عابرة في ظاهرها، لكنها انكشفت لي لاحقاً كخلاصة مأساة كاملة.

فحين جاءت الأحزاب التي تولّت الحكم بعد سقوط الأنظمة، أنشأت مكاتب سياسية واقتصادية، لكن لم يكن لأيٍّ منها مكتب ثقافي واحد.

وهكذا جرى التعامل مع الثقافة بوصفها ترفاً لا ضرورة، مع أن الثقافة هي الجذر الذي تنبت منه السياسة، وهي البنية التي تسبق الاقتصاد وتبرر وجوده.

حين يُختزل التغيير في المال والسلطة فقط، يصبح المجتمع غنياً في موارده، فقيراً في روحه.

ومن هنا بدأ السقوط الذي لم يتوقف بعد.

في الغرب، حين سقطت القنابل على المدن، اهتزّ الفكر قبل أن تهتزّ الجدران.

الحرب العالمية الأولى ولّدت جيل الضياع، والثانية أنجبت جيل التمرد، من فوكنر وهمنغواي إلى جاك كيرواك وألن غينسبرغ، الذين حوّلوا الرماد إلى لغةٍ جديدة، والخيبة إلى فلسفة حياة.

كل حربٍ هناك كانت تلد مدرسة فكرية أو فنية، لأنهم أدركوا أن الدمار الحقيقي لا يقع في المدن بل في المعنى.

أما عندنا، فقد سقطت القنابل ولم تُصب اللغة.

تحطّمت البيوت، لكن المفاهيم القديمة ظلت كما هي:

الزعيم، الشيخ، الحزب، الطائفة، القبيلة.

لم تخرج من الحرب فكرة، ولم تولد من الألم مدرسة.

بقيت الثقافة في الهامش، والوعي أسير الخوف من المختلف، كأن الخراب لم يكن كافياً ليدفعنا نحو السؤال.

في اليابان، حين نُسفت المدن، لم يبحثوا عن بطلٍ جديد، بل عن عقلٍ جديد.

أسسوا حداثتهم من رمادهم، من مواجهة الذات لا الهروب منها.

أما نحن، فكل هزيمة تدفعنا إلى الماضي أكثر، إلى الأسطورة، إلى النسب، إلى القبيلة، إلى الطاعة المريحة التي تغنينا عن التفكير المتعب.

نغيّر الوجوه ونظن أننا تغيّرنا، بينما ما يزال القاموس هو القاموس ذاته، واللغة هي السجن ذاته.

في هذا المناخ، يصبح الكاتب الذي يرفض التماثل خطراً على النظام لا على الدولة. مؤسساتنا الثقافية ما زالت تفضّل المثقف المطيع على المفكر المزعج، والكاتب الذي يبرّر على الذي يُسائل.

السلطة في جوهرها ليست جهازاً ولا حزباً، بل بنية ذهنية تتحكم بطريقة رؤيتنا لأنفسنا وللعالم.

هي التي تجعلنا نبحث عن زعيمٍ جديد كلما سقط القديم، وتُعيد إنتاج الطاعة في شكلٍ جديد من الخوف.

إنها التي تجعلنا نخلط بين الاحترام والخضوع، بين الهوية والعصبية، بين الدين والسلطة.

وما لم ندرك أن هذه السلطة تسكن فينا قبل أن تحكمنا، فلن يتغير شيء، حتى لو تغيّرت الأنظمة ألف مرة.

إن التغيير لا يبدأ بقراراتٍ سياسية ولا بصفقاتٍ اقتصادية، بل بإعادة بناء الوعي نفسه.

حين تتحرر اللغة من الخوف، يتحرر الإنسان، وحين يستعيد المجتمع ثقافته الحقيقية، تسقط أقنعة السلطة كلها.

فالثقافة ليست زينةً للمجتمع، بل شرط وجوده.

وما لم نكسر الدائرة التي تدور فيها السياسة دون فكر، سيبقى المستقبل نسخةً من الماضي، وسنظل نحلم بالتغيير بينما نحرس بأيدينا السلطة التي تسكننا.

إرسال تعليق

أحدث أقدم