كربلاء: مسؤولية تتجدد




كتب رياض الفرطوسي 


كربلاء ليست ذكرى نعلقها على جدار الأيام، ولا حدثاً نتلوه عند كل عاشوراء كحكاية تذرف لها الدموع ثم تنطفئ. إنها سؤال مفتوح على التاريخ والضمير، مسؤولية تتجدد كلما تجدد الظلم، وكلما ارتعد صوت الحق في الحناجر.


الحسين ( ع ) لم يخرج طلباً لملك، ولا رغبة في سلطة، بل خرج ليقيم الحجة، وليكسر الصمت الذي كان يطبق على الأمة. كان يعرف منذ اللحظة الأولى أن الطريق الذي اختاره معبّدٌ بالدم، وأن القوم الذين أرسلوا إليه الكتب لن يثبتوا معه ساعة البلاء. لكنه مع ذلك مضى، لأنه كان يرى في صمته خيانة، وفي كلامه حياة لدين الله وإن كان فيه موته.


في كربلاء، لم تُسطر ملحمة بالسيوف وحدها، بل سُطرت ملحمة الوعي. هناك تعلّم الناس أن المعركة لا تُخاض بالعاطفة وحدها، بل بالعقل والحكمة والتخطيط. ليلة العاشر من المحرّم، حين اجتمع الحسين ( ع ) بأصحابه، لم يلقِ عليهم خطبة تحريض أو يجبرهم على البقاء. بل قالها واضحة: «هذا الليل قد غشيكم، فاتخذوه جملاً». أتاح لهم فسحة النجاة، لا فراراً من المواجهة، بل حرية في القرار. فالثورة التي تُفرض على الناس بالقوة، ليست ثورة، بل عبء جديد.


تلك الليلة كانت درساً خالداً في القيادة والوعي. فيها يعلّم الحسين ( ع ) قادة كل زمان أن المسؤولية تقتضي أن تضع أمام الناس كل الاحتمالات، من النصر إلى الفقدان، من الظفر إلى الاستشهاد. وأن على القائد أن يهيّئ لكل احتمال خطته، حتى لو كان احتمال الموت.


إن دم الحسين ( ع ) لم يكن مجرد دم سال على الرمال، بل دم أضاء الطريق للأجيال. كربلاء كانت مدرسة، علمت الناس أن الدم إذا سُفك دفاعاً عن الحق صار حياة، وأن الصمت أمام الباطل موتٌ ولو كانت الأرواح باقية.


ولذلك، من أراد أن يستلهم كربلاء، فليعلم أن كربلاء ليست منصة خطب، ولا مناسبة للمواكب فحسب، بل هي موقف ومشروع وفكرة. هي مسؤولية تتجدد في كل عصر.


إن كل من يرفع راية الحسين ( ع ) اليوم، عليه أن يتذكّر أنه حين سار إلى كربلاء، سار إليها وهو يُدرك كل تبعات الموقف. وضع الاحتمالات كلها أمامه، من النصر إلى الشهادة، ولم يذهب عشوائياً، ولم يترك أصحابه بلا بصيرة.

ولهذا فإننا حين نعيش كربلاء، ينبغي لنا أن نفهمها كمسؤولية لا مجرد طقس. علينا أن نستلهم منها التخطيط لا الفوضى، البصيرة لا الانفعال، الشجاعة التي تدرك تبعاتها لا التهور الذي يدفع الناس إلى الهلاك.

كربلاء تقول لنا إن الحق لا ينتصر بكثرة العدد، بل بصدق الموقف. وإن القائد الذي لا يضع الاحتمالات ولا يهيئ للناس مخرجاً حين تشتد الخطوب، لا يملك من قيادة الحسين( ع ) شيئاً.

كربلاء مسؤولية تتجدد ، ولن تكون كربلاء حية فينا إلا إذا تحوّلت من ذكرى دامعة إلى وعي حي، ومن مناسبة إلى مشروع أخلاقي، ومن بكاء على الماضي إلى عمل من أجل الحاضر والمستقبل.

هكذا فقط نحفظ دم الحسين، ونصون رسالته، ونجعل من كربلاء شعلة لا تنطفئ.

إرسال تعليق

أحدث أقدم