د. سيف الدين زمان الدراجي
*باحث في شؤون السياسة الخارجية والأمن الدولي.*
يجد العراق نفسه اليوم عند نقطة انعطاف تاريخية، تقف فيها الدولة بين موروث الهشاشة وتطلعات التحول إلى بنية مؤسسية صامدة. فبعد عقود من الصراعات والحصار والحروب والإرهاب والاضطرابات السياسية، دخل العراق مرحلة انتقالية معقدة لا تزال تتأرجح بين مؤشرات الانهيار البنيوي وإرهاصات التعافي والصمود.
فبحسب تقارير البنك الدولي، لا يزال العراق يُصنّف ضمن الدول الهشة والمتأثرة بالنزاعات. نتيجة عوامل عدة، أبرزها ضعف الحوكمة، تآكل البنى الاقتصادية، عدم استقرار المؤسسات، والتدخلات الخارجية التي تقوّض القرار السيادي.
ومع ذلك، فإن هذا الواقع لا يعكس صورة شاملة، لأن العراق في الوقت ذاته يشهد جهودًا إصلاحية جادّة على عدة مستويات. هناك حركة بطيئة لكنها ثابتة باتجاه إعادة هيكلة الدولة، وتعزيز السيادة، وتكريس مفهوم الشراكة المجتمعية، فضلًا عن تحديث أدوات الدولة في المجالات الأمنية والاقتصادية والإدارية.
*إصلاح القطاع الأمني: حجر الزاوية في التحوّل المؤسسي*
من أبرز مظاهر هذا التحول، ما أُنجز مؤخرًا في مجال إصلاح القطاع الأمني، وهو ما يُعد سابقة نوعية في تاريخ الدولة العراقية الحديثة. فقد أُنجزت، ولأول مرة، استراتيجية وطنية شاملة لإصلاح القطاع الأمني، عبر عملية تشاركية ضمّت مؤسسات عسكرية وأمنية ومدنية، بإسناد فني دولي وشراكة مع المجتمع الدولي.
تقوم هذه الاستراتيجية على مبدأ "الحوكمة الأمنية" التي تضمن التوازن بين الكفاءة والرقابة، وتُعيد تعريف الأدوار بين المؤسسات الأمنية المختلفة، وتربط الأمن بالعدالة والتنمية، بدلًا من الأمن القائم على القوة فقط. كما تهدف إلى تعزيز مهنية الأجهزة، وحصر السلاح بيد الدولة، وتفعيل الرقابة الديمقراطية.
وفي السياق نفسه، اكتملت استراتيجية الأمن الوطني العراقي 2025–2030، والتي تُعد الإطار الجامع لرؤية شاملة للأمن، بمعناه السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والبيئي، والتكنولوجي. وتمت صياغة هذه الوثيقة بمشاركة واسعة من مختلف الوزارات والمؤسسات، وهي تُمثل نقلة في التفكير الأمني، من مفهوم "الخطر" إلى مفهوم "الفرصة" و"الوقاية".
أما الملف المهم الآخر، فيتعلق بتحديث سياسات مكافحة الإرهاب، من خلال تبني نهج متكامل يجمع بين الردع الأمني والمعالجات الوقائية المرتكزة على التعليم، والإعلام، والخدمات، والعدالة الاجتماعية. ويُعد هذا التوجه امتدادًا لمسار طويل من المواجهة مع الإرهاب، يسعى لتحويل التجربة العراقية من رد فعل إلى سياسة وطنية وقائية متعددة الأبعاد.
*التحديات الكبرى: التمويل والتطبيق*
ورغم هذا الزخم الاستراتيجي، فإن المرحلة المقبلة – مرحلة التنفيذ – ستكون الأصعب. فإطلاق الخطط التنفيذية لهذه الاستراتيجيات سيصطدم بعدة تحديات، أبرزها محدودية التخصيصات المالية، والتباطؤ في إجراءات الموازنة العامة، والتنافس المؤسسي، والضغوط السياسية.
فالخطط التنفيذية تشمل برامج لإعادة تدريب القوات الأمنية، وبناء قدرات الإدارة المدنية، وإنشاء قواعد بيانات وطنية مشتركة، وتعزيز منظومات الإنذار المبكر، وهي جميعها مشاريع تتطلب تمويلًا حقيقيًا واستدامة مالية.
إن أي تقصير في هذا الجانب قد يعيد الأمور إلى نقطة الجمود، ويهدد بخسارة الإنجاز الاستراتيجي الذي تحقق على الورق.
لكن من المهم التأكيد على أن الشروع بالتنفيذ – ولو تدريجيًا – هو الشرط الأساسي لتحويل "الرؤية" إلى واقع مؤسسي. كما ويمكن إدارة التحديات التمويلية من خلال أولويات ذكية، وجدولة مرحلية، وتفعيل الشراكات الدولية، خصوصًا وأن المجتمع الدولي أبدى استعدادًا لدعم إصلاحات حقيقية إذا رافقها التزام سياسي واضح.
*إشارات تحوّل: ملامح التوازن الجديد*
بالتوازي مع البعد الأمني، تشهد مؤسسات الدولة العراقية نوعًا من التحوّل الإداري التدريجي، كجزء من مشروع أوسع للإصلاح المؤسسي. فهناك توجه متزايد نحو رقمنة العمل الحكومي، وضبط النفقات، وتطوير الخدمات، ومكافحة الفساد بكل أشكاله، وإن كان هذا التحول لا يزال هشًّا أمام مقاومة من لايرغب بالتغيير.
اما *في السياسة الخارجية* ، بدأ العراق يستعيد التوازن الاستراتيجي، محاولًا بناء علاقات متعددة بعيدًا عن الانحيازات. وتعبّر سياسة "الحياد الإيجابي" عن محاولة لتفادي الاصطفافات الإقليمية الحادة، مع الحفاظ على علاقات متوازنة مع جميع الأطراف الفاعلة. وقد نجح العراق حتى الآن في تجنب الانجرار للدخول في صراعات اقليمية.
لكن هذا التوازن لا يزال هشًا، ويحتاج إلى تثبيت عبر مؤسسات مستقرة، وخطاب وطني موحد، وإعادة تعريف مفهوم السيادة كمصلحة وطنية جامعة، لا مجرد شعار سياسي.
*العراق عند مفترق طرق*
لم يعد العراق كما كان في سنوات الحرب الطائفية، حين كانت ملامح الدولة الفاشلة تهيمن على المشهد. كما أن توصيفه الحالي كدولة هشّة في بعض التقارير الدولية لا يعكس بدقة ما يشهده من تحوّلات داخلية، ويستدعي مراجعة موضوعية ومعمّقة لهذه التقديرات. إن العراق اليوم يمرّ بمرحلة انتقالية دقيقة بين الهشاشة والصمود؛ إذ لم يعد هشًّا بالمعنى المؤسسي الكامل، لكنه لم يبلغ بعد مستوى الدولة الصامدة ذات المؤسسات الراسخة والحوكمة المستقرة.
هذا الوضع الانتقالي يمثل مفترق طرق حقيقي، فإما أن يستمر مسار الإصلاح وتُفعّل الاستراتيجيات الوطنية لتُعزز مناعة الدولة ومكانتها، أو أن تؤدي التحديات المتراكمة وتباطؤ التنفيذ إلى تراجع يهدد ما تحقق ويُعيد إنتاج أزمات الماضي بصور جديدة.