
حسين الذكر
فيما كنت اتسائل عن اسباب وجوهر الحضارة الامريكية التي جعلتها تتسيد القوة وتقود العالم .. وقع امامي كتاب بعنوان ( صناعة القرار في الولايات المتحدة الامريكية ) .. فتبين ان القرار ليس وليد المصادفة ولا جزء من الحدس والمزاج او الاقتراح او الامنية الشخصية .. بل هو تداول وصهر باكثر من مائة نافذة وملف بحثي واستشاري حتى يضع امام المسؤول ليضع عليه ملاحظاته المسببة ثم يراجع ويتداول ويراجع حتى يكون جاهز للتوقيع .. وسر النجاح لا يكمن هنا فحسب .. بل ان تلك المنافذ البحثية تعتمد اعتماد جلي على المتقاعدين من اهل الخبرة والاختصاص ..
في واحدة من النهارات الجميلة التي قضيتها في الدوحة بضيافة احد الزملاء الصحفيين القطريين وقد زرت برفقته مرافق ومشاريع كانت قاحلة مهملة ايام زمان فاستحالت بفضل الارادة والتخطيط الى ما يشبه عجائب الزمان .. ثم سالته عن عمله واين يعطي خبراته ويقدم استشاراته .. فاشاح بوجهي عن الحديث بهذا الموضوع .. وقد قلت له : ( على العموم مشكلة المتقاعدين كما يسمهوهم تهكما - بالعربي - هو الاحساس بالبعد والتهميش عن المؤسسة سيما قادتها الشباب بعد ما قضى عمره بخدمتها معرفة كل شؤونها .
في دردشة بسوق واقف مع مختلف ضيوف كاس العرب في الدوحة سالني بعض الجمهور السعودي والقطري والمصري والعراقي وآخرين عن اسباب خروج منتخباتهم من البطولة بشكل غير متوقع ..
كعادتي في ادارة الحوار لم اذهب مباشرة الى ما يريده الجمهور في التصعيد والتشنج والرد المزاجي في كثير من الاحيان .. فقلت : ( دعوني اضرب لكم مثلا .. في العراق منذ تاسيس الكرة العراقية حتى اليوم افضل الانجازات الكروية سجلت باسماء مدربين عراقيين ولاعبين محليين وعمو بابا انموذجا .. وفي كنت اتحدث مع مسؤول رياضي قطري عن افضل انجازات قطر فتبين انه المركز الثاني عالميا للشباب في استراليا 1981 .. فسالته عن اللاعبين وتبين كلهم قطرين ولا مجنس واحد فيهم ) ..
العملية برمتها تحتاج الى اعادة دراسة ملف الاحتراف وتقنينه وتوظيفه وفقا لدراسات اجتماعية رياضية اقتصادية تولد من رحم الذات وتعالج الذات .. بما يوفر الكثير من الجهد والوقت والمال .. وهذا لا يعني عدم الافادة من المجنس والمغترب والمحترف فالقضية ليست عقدة الاجنبي بل الاساس يكمن بعملية توظيفه بصورة مبالغ فيها بشكل يزيح ويهمش ويسقط المحلي ارضا بل يشطبه من الخريطة .. وهذه ثقافة عربية سلبية للاسف متمكنة مترسخة في السلوك العملي والنظري ايضا .. وهي لا تقف عند حدود الكرة بل بمختلف مجالات الخدمة والخبرة الوطنية ..
ليس من باب الطرفة بل ضحك مبكي قال صديقي الاستاذ الجامعي في العراق ان اسهل واسرع معاملة في حياته هي ملف احالته على التقاعد فان العمادة تنجز كل شيء حتى قبل ان تسال وتمنحك براءة الذمة ( ليس حبا بزيد ولا في سبيل الله ولكن بغضا بخالد ) .. الادارة الشابة تسارع بالخلاص من كل الخبرات واصحاب الرمزية والشهرة والكفاءة فهم يشكلون عبأ نفسي ومعنوي ثقيل جدا عليها .. لذا يقلعوه باسهل واسرع السبل ..
ولتاكيد ذلك فهم لا يتصلون بالمتقاعد ولا يعملون لقاءات شهرية او فصلية او سنوية لغرض الافادة من الخبرات والرؤى والاستنارات التي تعلمهم كيفية الابداع والسير على الطريق الصحيح .. لذا تبقى المؤسسة وادارتها في تراجع المضمون لانها تفضل العيش في الظلام الدامس بعيدا عن خبرة وشهرة متقاعد كفء ..