*الحشد الشعبي تحت الاستهداف الناعم: تفكيك مؤسسات الردع في العراق كمدخل لإعادة تشكيل خارطة الشرق الأوسط*




ناجي الغزي/ باحث سياسي واقتصادي

في خضم بيئة إقليمية مشحونة بالتقلبات، وتحت ضغط تحديات دولية لم تعد تُخفي أطماعها أو أدواتها، يتعرّض العراق اليوم إلى موجة جديدة من الحروب غير التقليدية، عنوانها هذه المرة "*تفكيك الوعي الجمعي"*  وضرب الرموز الوطنية من الداخل، لا بالصواريخ أو المفخخات، بل بـ"التقارير" و"الحوارات" و"المناظرات" المفخخة التي تُبث من على شاشات قنوات ممولة وموجهة، لا هدف لها سوى إضعاف البنية المعنوية للشعب العراقي وتمزيق النسيج المقاوم فيه.

في مقدمة هذه القنوات، تبرز قناة UTV، وبرامجمها المسمومة، التي لم تعد تقدم نفسها كوسيلة إعلامية محايدة، بل كذراع تنفيذية لحرب إعلامية ناعمة، مبرمجة وممنهجة، تستهدف الحشد الشعبي بصفته آخر خطوط الدفاع السيادي عن وحدة الدولة العراقية، بعد أن تم تحييد المؤسسة السياسية، وتفكيك الإجماع المجتمعي، وزرع بذور الشك في جدوى المقاومة الوطنية.

إن ما يجري على الشاشات هو *تحول ناعم في هندسة الفضاء الإدراكي للعراقيين*، عبر توجيه الخطاب الإعلامي صوب "شيطنة" الحشد، وتحميله وزر كل اختلال أمني أو سياسي أو اقتصادي، مع تعمد إغفال دوره التاريخي في منع انهيار الدولة عام 2014، حين وقفت فصائل المقاومة والحشد في الفراغ الذي خلفه مؤامرة الانسحاب والتواطؤ والخذلان.

*تفكيك الحشد: الهدف الحقيقي وراء معركة الوعي*

ليس الحديث عن حل الحشد الشعبي وليد مزاج إعلامي أو تراشق سياسي، بل هو انعكاس صريح لتحولات إقليمية ودولية ترى في العراق اليوم *ساحة التعديل القسري للخرائط والموازين*.  المشروع الذي لم ينجح في كسره عسكرياً، يُراد تفكيكه نفسياً ومجتمعياً. ومن هنا، فإن الترويج لتفكيك أو إضعاف الحشد في هذا التوقيت، *يخدم أهدافاً تتجاوز الداخل العراقي*، لتتصل صراحةً بمخطط "الشرق الأوسط الجديد" الذي ما زال حياً في الغرف السوداء لتل أبيب وواشنطن وبعض العواصم الخليجية.

هذا المشروع لا يطمح فقط إلى إعادة رسم حدود الدول، بل إلى *إعادة تعريف من يملك حق السلاح والقرار والسيادة*.  وفي العراق، يمثل الحشد الشعبي "عائقاً مركزياً" أمام هذا المخطط، كونه القوة الوطنية الوحيدة التي لا تزال خارج دائرة الترويض الغربي – الإسرائيلي، وتحتكم إلى *شرعية الدم والتكليف*، لا إلى الشرعية الانتخابية القابلة للتدوير والمساومة.

*الإعلام الموجَّه: معركة داخلية بأدوات داخلية*

إن أخطر ما في هذه الحرب الناعمة هو أنها تُدار *بأدواتنا نحن*. فالإعلام العراقي، أو لنقول بعضه، تم اختراقه وتحويله إلى منصات تخدم روايات أعداء العراق. أدوات ناطقة بالعربية، ترتدي لبوس المهنية والموضوعية، لكنها تُعيد إنتاج سردية استهداف الحشد بصيغة محلية لإضفاء المصداقية على المشروع الخارجي. إنها محاولة لـ"عقلنة" تفكيك الحشد، وخلق قبول تدريجي داخل الشارع لمشروع قد يبدو، للوهلة الأولى، نقاشاً طبيعياً حول "دور الدولة"، لكنه في جوهره *أداة ناعمة لإعادة هيكلة التوازنات لمصلحة خصوم العراق*.

هذا الإعلام لا ينقل الواقع، بل يصنعه. ينتزع من العقول الخاوية اعترافات مفبركة، ويبني عليها أخباراً مركبة، تُعرض على الرأي العام وكأنها وقائع نهائية، ليبقى الجمهور في *دوامة من الخوف والقلق والشك* أمام مستقبل يبدو مجهولاً، بينما الأجهزة الرسمية تقف مكتوفة الأيدي: لا القضاء يتدخل، ولا هيئة الإعلام والاتصالات تردع، ولا الأجهزة الأمنية تطوق هذا الانهيار الإعلامي المدفوع.

*التهديد الوجودي - لماذا الحشد الآن؟*

إن اختيار الحشد الشعبي كهدف أول لهذه الحرب الإعلامية ليس عبثياً، بل لأنه بات *الحاجز الأخير أمام سيناريو الفوضى*. سلاح الحشد لا يمثل مجرد بندقية أو لواء، بل هو "نقطة توازن"، تمنع انزلاق العراق إلى داعش جديدة. ولهذا، فإن محاولة تفكيكه تُفتح معها ملفات تهريب الإرهابيين من الحدود السورية، وإعادة إحياء الفصائل النائمة في الصحراء الغربية، ضمن *إعادة تدوير مشروع الفوضى لعام 2014، ولكن بأدوات أكثر نعومة ودقة*.

وفي مقابل شيطنة الحشد، يُقدّم سلاح البيشمركة كرمز للكرامة الكردية، دون أن يُساءل. بل يجري التعتيم الكامل على اختراقات أمنية خطيرة مثل تغلغل الموساد الإسرائيلي في مناطق كردية وسنية، وعلى تنقل عناصر مخابراتية تحت غطاء الشركات أو المنظمات، وهي اختراقات لا تُعرض على الشاشات، ولا تُناقش في الحوارات.

*المواجهة: من الوعي إلى الضربة الاستباقية*

الدول الراسخة لا تُبنى بالشعارات، بل باليقظة الاستخباراتية، والتحرك الميداني، و*الضربة الاستباقية* التي تحبط المخطط قبل تنفيذه. وإذا كان الإعلام المأجور قد نجح في خلق "ضباب إدراكي" حول مفهوم المقاومة، فإن الرد عليه لا يكون بالبكائيات أو البيانات، بل بـ*هندسة مضادة للوعي*، تُعيد الاعتبار لسردية الانتصار، وتكشف الأجندات التي تتقنع بالديمقراطية وهي تُمهد للفوضى.

على الحكومة العراقية بكل مؤسساتها، أن تدرك أن المعركة على الحشد ليست أمنية فقط، بل وجودية. إن أي تفكيك أو إضعاف لهذه المؤسسة، في ظل بيئة إقليمية تتقاطع فيها أطماع تركيا وإسرائيل وأميركا وبعض العرب، هو *انتحار سياسي وأمني*.  يجب إطلاق مبادرات فورية لخلق جسور الثقة بين الحشد والمجتمع، وتدعيم العلاقة بين المواطن والأمن، وتعزيز خطوط التواصل الشعبي مع المؤسسات الاستخبارية، لخلق بيئة يقظة لا يمكن اختراقها.

إرسال تعليق

أحدث أقدم