*بين التحديات وصناعة الدولة: قراءة استراتيجية في تجربة نوري المالكي 2006–2014*



ناجي الغزي/ كاتب وباحث سياسي


في اللحظة التي تولّى فيها نوري كامل المالكي رئاسة الوزراء عام 2006، لم يكن العراق مجرد دولة خارجة من حرب، بل كان ميداناً مفتوحاً لصراع مركّب تتداخل فيه الجغرافيا السياسية بالهويات المتصارعة، والمصالح الدولية بالمشاريع الإقليمية، والخراب المؤسسي بالتآكل المجتمعي. كانت الدولة العراقية أقرب إلى الهيكل المهزوم منه إلى الكيان القادر، تنهشه النزاعات الطائفية، وتكبّله التركة الثقيلة للاحتلال الأميركي، فيما تقف مؤسساته على أطلال دولة سابقة جرى تفكيكها عمداً بلا بديل.

لم يكن المالكي في مواجهة أزمة حكم فقط، بل أمام مهمة تاريخية: انتشال العراق من فراغ السلطة، واستعادة الدولة من قوى التشظي، وإعادة تعريف السيادة الوطنية وسط بيئة تتقاذفها مشروعات التقسيم والانكفاء. لم يتقدم إلى المنصب على وقع إجماع سياسي، بل جاء من قلب الاضطراب، محاطاً بالتوجس والرفض، ومحملاً بإرث من الدم والانقسام، ليبدأ ما يشبه عملية جراحية كبرى في جسد الوطن.


في هذه المرحلة، لم تكن الاستراتيجيات التقليدية قادرة على تقديم حلول. بل تطلّب الأمر رؤية ذات طابع استثنائي: أن تُبنى الدولة من الداخل، تحت النيران، في ظل الانقسام، ومن دون غطاء دولي حقيقي. وهنا، بدأ المالكي صراعه المزدوج: داخلياً ضد الانفلات والفوضى، وخارجياً ضد إرادات كبرى لم تكن راغبة بقيام عراق قوي.

من هنا، تصبح قراءة تجربة المالكي من 2006 إلى 2014 ضرورة استراتيجية، لا لتقييم رجل سياسة فحسب، بل لفهم كيف يُمكن لزعيم أن يتقدم في حقل ألغام وطني وإقليمي ودولي، ويحاول ـ رغم العواصف ـ أن يعيد ترسيم ملامح الدولة العراقية من جديد.


*أولاً: الانطلاقة من الرماد*


في سنوات حكومة المالكي الأولى، كان الانشغال الأمني هو الهاجس الأكبر. القاعدة تجتاح المحافظات، والمليشيات الطائفية تسيطر على الأحياء، والسلاح خارج يد الدولة. وسط هذا المشهد، قرر المالكي أن يبدأ من حيث ينبغي أن تبدأ أي دولة: من فرض النظام. ومنذ عملية "فرض القانون" في بغداد عام 2007، كانت إرادة الدولة تبدأ بالتجسد من خلال تفكيك المليشيات، ودمجها أو ترويضها، وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والعسكرية. هذا التوجه توّج بقرارين سياديين كبيرين: تنفيذ حكم الإعدام بصدام حسين، ثم توقيع الاتفاقية الاستراتيجية مع واشنطن التي مهدت لانسحاب القوات الأميركية نهاية 2011.

خروج العراق من طائلة الفصل السابع عام 2013 لم يكن مجرد إنجاز قانوني، بل تتويج لمسار استعادة السيادة، حيث عاد العراق دولة كاملة العضوية والقرار في المنظومة الدولية بعد أكثر من عقد من التهميش والوصاية.


في الميدان الإداري والمؤسسي، دشّن المالكي بناء ما أسماه "حكومة الخدمات". فإلى جانب الأمن، توسعت هياكل الدولة العراقية لتشمل شبكات دعم جديدة: مؤسسة الشهداء، مؤسسة السجناء السياسيين، شبكة الحماية الاجتماعية، صندوق البترو-دولار، والمبادرة الوطنية للإسكان.

ارتفعت أعداد الوظائف العامة بشكل غير مسبوق، خصوصاً في صفوف الجيش والشرطة والتعليم. وتمت إعادة آلاف المفصولين السياسيين، وإطلاق حزمة من القوانين الخاصة بالضمان والتقاعد وتوزيع الأراضي. هنا، كان المالكي يصوغ ما يشبه "عقداً اجتماعياً" جديداً: الدولة مقابل الولاء، الدعم مقابل الدم، والمواطنة مقابل الالتزام بالنظام العام.


*ثانياً: البناء في قلب العاصفة*


رغم محدودية البنية التحتية، والإرهاب الطائفي الضارب، والتحديات والتدخلات الإقليمية، تمكّن العراق بين 2006 و2014 من تحقيق قفزات اقتصادية مهمة. تضاعف إنتاج النفط الخام من 1.9 مليون برميل يومياً إلى أكثر من 3.2 مليون، وزاد التصدير بنسبة 93%. وقدّمت جولات التراخيص النفطية نموذجاً مثيراً للجدل، لكنها كانت الأساس في صعود الإيرادات العامة التي وصلت في إحدى سنوات المالكي إلى 94 مليار دولار.

وفي قطاع الكهرباء، ورغم التحديات، ارتفعت القدرة الإنتاجية من 4,700 ميغاواط إلى أكثر من 11,000 ميغاواط. وتم إنشاء العشرات من المحطات الغازية والديزل، ومد مئات الكيلومترات من الشبكات الجديدة، لتصل الكهرباء إلى أكثر من 684 حياً سكنياً جديداً.

أما في النقل، فقد شهدت المطارات العراقية تحولاً هائلاً، مع تزايد أعداد القادمين والمغادرين بنسب تفوق 600%. وتم التعاقد على باخرات، وقطارات صينية حديثة، وتطوير الموانئ والسكك، وإطلاق مشروع ميناء الفاو الكبير الذي كان حلماً مؤجلاً.


في التعليم، ارتفع عدد الطلاب المقبولين في الجامعات الحكومية بنسبة 97%، وزاد عدد المدرسين والباحثين، ونُفّذت المبادرة التعليمية الكبرى التي أُرسِل بموجبها آلاف الطلبة إلى الخارج. وارتفع عدد الكليات الحكومية والأهلية، وانتعشت حركة البحث العلمي. وفي قطاع الصحة، زادت المستشفيات بنسبة 49%، وتم إنشاء وتأهيل مئات المراكز الصحية، مع تحسين ملموس في مؤشرات وفيات الأطفال ومتوسط الأعمار.


وفي الريف، أطلقت المبادرة الزراعية لتحقيق الاكتفاء الذاتي، وشُجّع القطاع الصناعي، فزادت المنشآت الصناعية الكبيرة بنسبة 41%، وارتفعت الأجور، وتم تشغيل مئات الآلاف من العاطلين. وكان المالكي حريصاً على ربط هذه المبادرات بمظلومية الطبقات المهمشة، محاولاً خلق توازن اجتماعي في توزيع الثروة.


*ثالثاً: الدولة - ثنائية القوة والشرعية*


لعل أخطر سؤال واجه المالكي لم يكن إدارياً أو اقتصادياً، بل سياسياً واستراتيجياً: كيف يمكن بناء دولة حديثة في مجتمع لم يخرج بعد من ثنائية المقاومة والولاء الديني والعشائري؟

لقد اختار المالكي أن يحوّل الحشد الشعبي لاحقاً من حالة ظرفية إلى مؤسسة دستورية، وأن يبني جيشاً وطنياً، وأن يستثمر في رمزية "القيادة المركزية" مقابل اجهاض دعاوى الفدرلة والانقسام. صحيح أن هذه السياسة جرّت عليه انتقادات تتعلق بالتركيز المفرط للسلطة، لكنها كانت استجابة لبيئة مشروخة غير مستقرة، أراد من خلالها استعادة هيبة الدولة، حتى وإنْ كان الثمن صداماً مع خصوم الداخل والخارج.


*رابعاً: نهاية الولاية وبذور الأزمة*


بحلول عام 2014، وبينما كان العراق يستعد لجني ثمار مرحلة من البناء السياسي والمؤسسي، جاءت نكسة سقوط الموصل بيد تنظيم "داعش" كضربة قاسية، لكنها لم تكن وليدة لحظة، بل نتيجة مؤامرات سياسية وأمنية متراكمة بدأت منذ تظاهرات الأنبار عام 2012. تلك التظاهرات، التي رُفعت فيها شعارات طائفية وتحولت إلى منصات تحريض، لم تكن حركة مطلبية بريئة، بل جزءاً من مشروع دولي ـ إقليمي لتفكيك الدولة من الداخل تحت غطاء "المظلومية السنية" المصنّعة.

في قلب هذه المؤامرة، لعب أسامة النجيفي، رئيس البرلمان آنذاك، وأخوه محافظ نينوى أثيل النجيفي، دوراً أساسياً في تعطيل التنسيق بين الحكومة المركزية ومحافظة نينوى، وحجب المعلومات الاستخبارية عن مكتب القائد العام. وبالرغم من علم المحافظ بتسلل "داعش" وبناء معسكراته، رفض الاستجابة لطلبات التعزيز الأمني، وفضّل تغذية خطاب العداء للجيش، ما أدى إلى انهيار دفاعات الموصل وتركها وحيدة أمام الهجوم.

ما جرى في الموصل لا يمكن اختزاله في فشل حكومي، بل هو خلاصة مخطط اختراق الدولة من داخل مؤسساتها. ورغم هذه التحديات الهائلة، تمكن نوري المالكي من تحقيق إنجازات معتبرة في بناء الدولة وإرساء مؤسساتها، في وقت كان خصوم الداخل يتآمرون، والشركاء يطعنون، والخنادق مفتوحة ليس على الحدود فحسب، بل في عمق النظام السياسي نفسه.

إرسال تعليق

أحدث أقدم