ناجي الغزي/ باحث سياسي واقتصادي
لم تكن منشأة فوردو النووية الإيرانية مجرد هدف عسكري تقليدي ضمن بنك أهداف الحرب الجارية بين إيران وإسرائيل، بل تحوّلت إلى رمز صلب لاختبار إرادة الأطراف، وفخ استراتيجي يتربّص بالقرار الأميركي. ومع عجز الكيان الإسرائيلي عن تدمير هذا الموقع بالغ التحصين، يجد نتنياهو نفسه محاصراً سياسياً وعسكرياً، فلا نصر تحقّق، ولا ردع تحقق، بينما الصواريخ الإيرانية تنهك العمق الإسرائيلي وتستنزف الدفاعات التي باتت على وشك الانهيار.
هناك تقارير تشير الى تدهور حاد في قدرة إسرائيل على حماية مجالها الجوي، في مواجهة الهجمات الصاروخية الإيرانية المتواصلة. التقارير تؤكد أن منظومتي الدفاع الجوي الرئيسيتين، "السهم" و"مقلاع داوود"، تقتربان من لحظة الانهيار، وسط استنزاف سريع للمخزون الاعتراضي، وتكلفة باهظة لكل صاروخ دفاعي تتراوح بين 700 ألف وأربعة ملايين دولار، ما يجعل استمرار العمليات الدفاعية بهذا الإيقاع المالي والتقني أمراً شبه مستحيل
في هذا السياق، يلوّح نتنياهو بورقة منشأة فوردو أمام الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ليس فقط كهدف حربي بل كـ"صفقة سياسية" مدفوعة الثمن، يدفعها حلفاء واشنطن في الخليج، ويجنيها نتنياهو كـ"نصر رمزي" على حساب أمن المنطقة واستقرار العالم.
*أولاً: فوردو في قلب العاصفة*
تقع منشأة فوردو تحت جبل سياه كوه قرب مدينة قم الإيرانية، على عمق يناهز 100 متر داخل طبقات من الحجر الجيري الصلب، وتحت حماية بنية هندسية معقدة صُممت لتحمّل أقسى الضربات، بما فيها القنابل الخارقة للتحصينات. إنها ليست منشأة نووية تقليدية، بل هي أشبه بقلب المشروع النووي الإيراني النابض، حيث تتركّز أجهزة الطرد المركزي الأكثر تطوراً من طراز IR-6، القادرة على تخصيب اليورانيوم إلى مستويات تقترب من نسبة تصنيع القنبلة.
إسرائيل حاولت استهدافها، لكنها فشلت. وحتى وسائل الإعلام المقربة من الجيش الإسرائيلي اعترفت ضمنياً بأن "فوردو خارج القدرة والسيطرة للطيران الإسرائيلي" لأسباب تتعلّق بالتحصين الجغرافي والدفاع الجوي الإيراني الكثيف. من هنا، تحوّلت فوردو إلى "هزيمة مؤجلة"، لكنها لا تزال تسكن عقل نتنياهو، الذي يدرك أن غيابه عن ضربها يعني خسارة الهدف الاستراتيجي الذي قامت لأجله الحرب.
*ثانياً: نتنياهو وابتزاز الحليف*
في ظل الفشل الإسرائيلي المتكرر في تحقيق نصر حاسم، يحاول نتنياهو تصدير عقدة فوردو إلى البيت الأبيض. يقنع الرئيس ترامب بأن ضرب منشأة فوردو لن يكلّفه شيئاً: "العملية بلا ثمن .. مدفوعة سلفاً"، كما تشير التسريبات الإسرائيلية. لكن السؤال الجوهري هنا: من يدفع؟
من الواضح أن التمويل لا يأتي من الخزينة الأميركية، بل من "الجيب الخليجي"، كما تُلمّح تسريبات من دوائر سياسية وعسكرية في واشنطن. دول خليجية، مدفوعة بالخوف من إيران النووية، وربما مدفوعة أيضاً من أطراف داخلية ترى في استمرار ترامب رئيساً ضرورة وجودية، لا تمانع تقديم الغطاء المالي لضربة كبرى كهذه - بشرط أن تظل بعيدة عن أراضيها.
نتنياهو يحاول تصوير العملية لترامب على أنها "هدية انتخابية"، وهدف سهل، يحقق لهما نصر رمزي، ويعيد فرض الهيبة الأميركية ويرضي القاعدة الإنجيلية الداعمة لإسرائيل في الداخل الأميركي. لكنه في الحقيقة يزرع لترامب فخاً استراتيجياً، إذ إن أي فشل في ضرب فوردو – أو حتى نجاح جزئي دون نتائج حاسمة – سيحول العملية إلى خسارة فادحة معنوية وعسكرية على مستوى العالم.
*ثالثاً: انفصال أوروبي عن مسار نتنياهو*
بينما يحاول نتنياهو جرّ الولايات المتحدة نحو حافة الهاوية، تعمل العواصم الأوروبية بهدوء لتثبيت خيار التفاوض مع إيران. تقارير فرنسية وألمانية أشارت بوضوح إلى رغبة في عقد جلسة حوار موسّعة يوم الجمعة، تكون بداية مسار تفاوضي جديد حول البرنامج النووي الإيراني، ولو في ظل تصاعد القتال. بالنسبة للأوروبيين، يرون ان إيران النووية يمكن احتواؤها عبر الدبلوماسية، بينما إسرائيل المنفلتة هي الخطر الآني الذي يهدد بتفجير المنطقة.
لذلك، يسعى نتنياهو لإفشال أي تحرّك تفاوضي. قصف مواقع في سوريا والعراق، إرسال تهديدات مبطنة للبنان واليمن، والتحريض الإعلامي ضد أي مسعى دبلوماسي. ما يهمه هو شيء واحد: ضربة استعراضية لفوردو، تُنقذ سمعته، تُرضي حلفاءه المتطرفين، وتعيد الزخم لمشروعه السياسي المأزوم في الداخل الإسرائيلي.
*رابعاً: حسابات ترامب... نار فوردو تحت الرماد*
الرئيس ترامب، المعروف بمزاجيته وتقلباته الحادة، يقف اليوم أمام لحظة مفصلية: الدخول في معركة مع إيران عبر توجيه ضربة كبرى لمنشأة نووية حساسة، أو التراجع وتحميل إسرائيل مسؤولية الفشل. وبين الخيارين، يدور جدل حاد داخل البنتاغون، وطرح أسئلة متعددة وهي:
1. هل تملك قنبلة GBU-57 القدرة الحقيقية على تدمير فوردو في ضربة واحدة؟
2. هل تستطيع طائرات B-2 اختراق الدفاعات الإيرانية والوصول للهدف؟
3. ما ثمن المواجهة الشاملة على القواعد الامريكية في الخليج إذا قررت إيران الرد بقوة؟
4. هل تستطيع واشنطن تحمّل رد فعل روسيا والصين في حال توسّع الحرب؟
5. والأهم: هل يستحق "النصر المجاني" الذي يروّج له نتنياهو، كل هذا الثمن؟
رغم ان الموقف الامريكي يتحمس على هذه الخطوة ولكن هناك العامل الروسي- الصيني، الذي لايمكن اهماله أو تجاهله اطلاقاً. موسكو حذّرت صراحة من دعم عسكري أميركي مباشر لإسرائيل، معتبرة أن ذلك سيفجّر المنطقة. وبكين من جانبها أرسلت إشارات مزدوجة عن دعم التهدئة، لكنها لن تسمح بانهيار علاقتها المتقدمة مع طهران.
أمام كل هذه المعادلات، يبدو أن واشنطن في مأزق استراتيجي مركّب: أي ضربة خاطئة قد تُشعل حرباً متعددة الجبهات وتكلفها نفوذها وهيبتها، لكن الامتناع عن الضرب أيضاً يعني انهيار الردع وفقدان إسرائيل لوزنها الاستراتيجي.
*خامساً: فوردو-عندما تصبح بوابة للجحيم*
لم تعد منشأة فوردو مجرد موقع نووي محفور في عمق الجبال الإيرانية، بل تحوّلت إلى عقدة استراتيجية معلّقة في رقبة الصراع بين إسرائيل وإيران، وورقة اختبار ثقيلة للقرار الأميركي. إنها أكثر من هدف عسكري صلب؛ إنها استعصاء جيوسياسي ينذر بانفجار إقليمي واسع، إذا ما تجرأ أحد على الضغط على زناده.
في العلن، يواصل رئيس الكيان الإسرائيلي نتنياهو دق طبول الحرب، مسوّقاً لفكرة أن "ضربة فوردو" هي ذروة المعركة وجائزة الحرب الكبرى، لا بل يهمس في أذن ترامب أن العملية مؤمّنة ومسبقة الدفع، محاولة منه لإغرائه بنصر مضمون بلا تكلفة...
لكن ما يغفله الخطاب الإسرائيلي، أو يتجاهله عمداً، أن كل قنبلة تُلقى على فوردو، لن تترك أثرها داخل حدود إيران فقط. بل سترتد شظاياها على مضيق هرمز، وتُشعل أسواق الطاقة العالمية، وتهدد بإعادة أوروبا إلى شتاء بارد بلا غاز، وشرق آسيا إلى حالة شلل صناعي. أي محاولة لاختراق الجبل الإيراني ستكون بمثابة إشعال فتيل زلزال جيوسياسي قد يهز استقرار الخليج كله.
فوردو، ببساطة، لم تعد مجرد منشأة نووية مدفونة في الحجر الجيري. إنها الرمز الأخطر في معركة الإرادات، والضربة التي إذا وُجهت، فلن تبقى محدودة، ولن تكون مدروسة العواقب. إن الضربة التي تسعى إسرائيل لتحقيقها بأي ثمن، قد تتحوّل إلى لعنة تفتح أبواب الجحيم على الجميع، بمن فيهم من ظنّوا أنهم آمنون في قصورهم السياسية أو حساباتهم العسكرية.
المنطقة اليوم لا تقف فقط على شفير حرب، بل على حافة مواجهة بين مشاريع مضطربة، وزعامات مأزومة، تبحث عن خلاص مؤقت أو انتصار وهمي. أما فوردو، فهي البوابة الأخيرة... بوابة إذا فُتحت، لا أحد يضمن كيف تُغلق، ولا كم ناراً ستترك خلفها.
