*حينما تُشكّل وسائل الإعلام مواقفنا وتفرضها علينا*
بقلم: ناجي الغزي/ باحث سياسي واقتصادي
في عالم تتزاحم فيه المعلومات وتتشابك فيه الحقائق مع الأوهام، لم يعد الإعلام المعاصر مرآة للواقع، بل بات غرفة عمليات لصناعة الواقع. نحن لا نعيش في زمن “نقل الحدث” بل في عصر “إنتاج الحدث وتفسيره وتوجيهه”. لذلك لم تعد وسائل الإعلام مجرّد ناقل محايد للأحداث، بل أصبحت لاعباً أساسياً في صياغة الوعي الجمعي وتشكيل الرأي العام. الإعلام اليوم لا يعرض الحقيقة، بل يُعيد تشكيلها ضمن قوالب نفسية ولغوية تُنتج رأيًا عامًا موجهًا، لذا نجده لا يكتفي بأن يُخبرنا بما يحدث، بل يخبرنا كيف يجب أن نشعر تجاه ما يحدث. وهذا الدور لا يُمارَس اعتباطًا، بل يتم بآليات دقيقة واستراتيجيات محسوبة تهدف إلى هندسة القناعات وبناء تصوّرات تخدم مصالح القوى المسيطرة.
*صناعة الرأي العام*
الرأي العام لا ينشأ من تلقاء نفسه، بل يُصنع، ويُدار، ويُعاد تعبئته وتوجيهه. وهذا يتم عبر أدوات إعلامية مدروسة كما يقول المفكر الامريكي نعوم تشومسكي (التكرار، التهويل والانتقاء، والإلهاء، واختزال المعقد وتبسيط المركب) وهذه الادوات الاربعة تنتهج وعي جديد حتى يصبح مألوفاً:
1. التكرار: الفكرة التي تُكرَّر تتحوّل إلى “حقيقة”. عبر إعادة بث الرسائل ذاتها بصيغ مختلفة، يتم ترسيخ المفاهيم حتى تصبح مألوفة، ثم مقبولة، ثم مسلَّماً بها. هكذا، يُقنع الإعلام الجماهير بما يريد، دون أن يفتح لهم باب الشك أو النقد.
2. التهويل والانتقاء: يُضخَّم حدثٌ صغير إذا خدم الأجندة، بينما تُهمَّش مأساة كبرى إن كانت خارج الإطار المرغوب. يُنتقى الخبر لا بناءً على أهميته الموضوعية، بل بناءً على ما يخدم توجيه المزاج العام نحو وجهة محددة.
3. الإلهاء: حين تشتدّ الأزمات، تُدفع الجماهير نحو مواضيع جانبية، عبر خلق قضايا مثيرة أو إثارة الجدل حول تفاهات تستهلك الانتباه، فيُنسى الجوهر وتنشغل العقول بالسطح.
4. اختزال المعقد وتبسيط المركب: عبر تقديم العالم كحكاية ذات بطل وشرير، يتم إلغاء التعقيد السياسي والاجتماعي، ويُدفع المتلقي لاتخاذ موقف سريع وانفعالي، دون تمحيص.
*كيف تُفرض القناعات؟*
الإعلام لا يطلب منك أن توافق صراحة، بل يعمل على تشكيل رؤيتك من الداخل. فهو يشحن لغتك، ويوجّه مشاعرك، ويعيد تشكيل فهمك لما هو طبيعي وما هو غير مقبول. وهذا يتم غالباً دون وعي مباشر، لأن أخطر عمليات السيطرة ليست تلك التي تفرضها بالسلاح، بل تلك التي تبدو طبيعية.
والخطورة لا تكمن فقط في ما يُعرض، بل في ما لا يُعرض. عندما تُحجب روايات، وتُعتم الحقيقة تحت مسميات مثل “التحقق” أو “المصداقية”، يُفرَض على المتلقي إطار معرفي واحد. هذا الإطار يتحوّل إلى عدسة يرى بها العالم، دون أن يدري أنه لا يرى الحقيقة، بل ما صيغ له أن يراه.
ومن هنا تمارس وسائل الإعلام الكبرى دور “المُفلتر” لا للوقائع فقط، بل حتى للأفكار واللغة والمفاهيم. وهنا تكمن السلطة الحقيقية: القدرة على تحديد ما هو طبيعي، وما هو شاذ، وما هو مشروع، وما هو مرفوض. ليس بالقمع المباشر، بل بتوجيه لا واعٍ يعيد تشكيل الإدراك الجمعي.
*الإعلام الجديد… وهم الحرية*
يظن الكثير أن الإعلام الرقمي هو البديل عن الاعلام التقليدي بأعتباره أكثر حرية، لكن في الواقع، تم دمجه في المنظومة القديمة نفسها. فشركات التكنولوجيا الكبرى التي تدير هذا الإعلام الجديد بدأت تنسج خيوطها مع مراكز القرار، وراحت تُطوّع فضاء الحرية ليتناسب مع منطق السوق، وأحياناً مع منطق السلطة. لم يعد القيد علنياً، بل ناعماً ومتخفياً. تمارس الرقابة بصمت، وتروّج خوارزمياً للمحتوى الذي يعزز الاستقطاب أو يشتت الانتباه.
لذلك نلاحظ هناك منشورات تُخفى بهدوء. وحسابات تُعلَّق أو تُغلق دون ضجيج. وأخبار تُدفع إلى الظل. ومحتوى جذّاب يُروج بشكل يثير الغرائز لا العقول. كل هذا يحدث بلمسة خوارزمية، لا يراها أحد، لكنها تحدد ما نراه، وما لا نراه.
الأخطر من الرقابة المباشرة، هو التوجيه الخفي. فبدل أن تُحجب الأصوات، تُغرق وسط ضجيج هائل من التفاهة، والترفيه المفرط، أو الاستقطاب العنيف. لم تعد المنصات الرقمية تهدف إلى تمكين المستخدم، بل إلى استغلال انتباهه حتى آخر ثانية. وكل ثانية نقضيها على الشاشة، هي فرصة لبيع إعلان، أو دفع فكرة، أو تجويف وعي.
وهكذا، بدل أن نتحرر من الإعلام التقليدي، وقعنا في أسر الإعلام الرقمي الأكثر تعقيداً، وأكثر قدرة على اختراقنا. الإعلام الجديد لا يطرق الأبواب، بل يدخل من نوافذنا المفتوحة على الدوام، ويعيد تشكيل نظرتنا للعالم، دون أن نشعر.
*مواجهة التظليل الإعلامي*
المطلوب ليس العداء مع الإعلام، في مواجهة التظليل الإعلامي المصنع والمجهز للرأي، بل تصبح الحاجة الملحة إلى وعي نقدي، وتفكيك خطابه، وتدريب العقل على قراءة ما وراء الصورة، وعلى مساءلة الخبر لا استقباله بسلبية. لذلك أصبحنا لا نرى العالم كما هو، بل كما يُراد لنا أن نراه، فإن أول خطوات التحرر تكمن في تفكيك هذا الإدراك. لا يعني ذلك رفض الإعلام بالمطلق، بل يعني التعامل معه بوعي نقدي، والسعي الدائم نحو مصادر متعددة، وتحليل السياقات لا الاكتفاء بالعناوين. فالرأي العام الحقيقي لا يُصنع في غرف التحرير، بل في عقول حرة تقرأ ما وراء السطور، وتدرك أن الحقيقة ليست دائماً ما يُقال، بل كثيراً ما تكون ما يُخفى. وإن المعركة الحقيقية ليست فقط على الأرض، بل في العقول. فحين تنتصر القوى على تفكيرك، لا حاجة لها بأن تنتصر عليك ميدانياً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق