
ناجي الغزي/ كاتب وسياسي
تبدو أن التطورات الأخيرة في العراق وتركيا كأنها أجزاء تُكمّل بعضها، من الهجوم على حقل كورمور في السليمانية إلى عملية استخباراتية محكمة في إسطنبول. كلا الحدثين يكشفان أن الإقليم قد دخل مرحلة يتجاوز فيها الصراع حدوده التقليدية، وأن القوى الإقليمية تستثمر العراق وتركيا كامتداد مباشر لصراعاتها الأمنية والاقتصادية في سوريا وشرق المتوسط.
استغاثة مسرور بارزاني بالولايات المتحدة، ومطالبته بتجهيز الإقليم بمنظومات دفاعية لحماية حقول الغاز، ليست مجرد شكوى أمنية. هي اعتراف ضمني بأن هجوم كورمور لم يكن محلياً أو بدائياً، فالدقة والتوقيت وطبيعة الهدف تشير إلى فاعل ذي قدرات استخباراتية وتقنية عالية، وأنه يحمل بصمة طائرات مسيّرة متطورة لا تملكها أي جهة عراقية محلية. هذا التصعيد الذي يستهدف منشأة تديرها شركة إماراتية، وفي لحظة توتر إقليمي حاد، أعطى للهجوم معنى يتجاوز حدود السليمانية.
*دور إسرائيل – في نشرت تسريبات تتهم تركيا*
اللافت أن مواقع إسرائيلية - منها تايمز أوف إسرائيل - نشرت تسريبات تتهم تركيا بالوقوف خلف الهجوم، رغم أن الاتهام لم يصدر عن جهة رسمية. إلا أن نشره عبر منصات إعلامية إسرائيلية ذات طابع استخباراتي يوحي بأنه رسالة سياسية موجّهة لأنقرة، التي دخلت في الأشهر الأخيرة في صدام متصاعد مع إسرائيل في الملف السوري والطاقة وغاز المتوسط.
هذا التسريب الإسرائيلي ليس خبراً عابراً، بل تلميحاً مدروساً يهدف إلى:
1. إحراج تركيا دولياً عبر إيحاء بضلوعها في استهداف منشآت تعمل فيها شركات إماراتية وأميركية.
2. تحميل أنقرة كلفة سياسية مبكرة قبل تثبيت الرواية رسمياً.
3. استثمار الضربة لإعادة ترتيب موازين القوى في شمال العراق وسوريا.
4. إسرائيل تريد توريط تركيا في ملف ضرب المنشآت الاقتصادية في العراق، ما يفتح باباً للعقوبات أو مواجهة أمريكية - تركية لاحقة.
5. التسريب يُستخدم لخلق تحالف إعلامي ناعم بين الإمارات وإسرائيل في مواجهة تركيا، عبر تصوير أنقرة كطرف يضرب منشآت تديرها شركات إماراتية.
بالمقابل، تتصاعد مؤشرات ترجّح أن تركيا هي الفاعل، ليس فقط لأسباب تقنية، بل ضمن إطار صراع النفوذ التركي – الإماراتي - القطري على جغرافيا الطاقة ومسارات التجارة. فتركيا إدراكاً منها بتوسّع الدور الإماراتي في معادلات الطاقة والنقل، قد تكون سعت عبر هذا الهجوم إلى خلط الأوراق داخل العراق وإرسال رسالة واضحة بأن نفوذ أبوظبي في السليمانية لن يمر دون رد.
*تركيا والردّ على الإمارات: معركة طرق التجارة الجديدة*
الهجوم على حقل كورمور لا يمكن فصله عن التطور الأخطر وهو: مشروع سكة الحديد الإماراتي - الإسرائيلي المعروف بـ "سكة حديد السلام"، والذي يهدف إلى نقل البضائع من الهند عبر الإمارات والسعودية والأردن وصولاً إلى ميناء حيفا، حيث يتم شحنها بحرياً إلى أوروبا والولايات المتحدة، دون المرور في تركيا. هذا المشروع إذا اكتمل سيمثل:
1. ضربة مباشرة لممرات تركيا التجارية.
2. التفافاً على الممرات البرية التي تراهن عليها أنقرة عبر طريق التنمية وممرات آسيا الوسطى.
3. ضرباً لمشروع طريق الحرير الصيني في أحد أهم امتداداته الغربية.
تركيا ترى في المشروع الإماراتي - الإسرائيلي محاولة لاقتطاع دورها الطبيعي كـ"جسر أوراسيا" عبر ممر اقتصادي يتجاوزها بالكامل، ويُنشئ محوراً بديلاً بدأ يتشكل بين أبوظبي وتل أبيب ونيودلهي. لذلك يُقرأ الهجوم على كورمور كجزء من رد تركي استباقي ضد تمدد الإمارات في قطاع الطاقة داخل العراق، وضد التحالف الإماراتي - الإسرائيلي الذي يزحف نحو بناء ممرات بديلة تمر خارج الأراضي التركية.
*العراق: الحلقة الأضعف في معركة الممرات*
في المقابل، يشهد العراق تأخراً واضحًا في تنفيذ مشروع "طريق التنمية"، الذي كان يفترض أن يكون بوابة تركيا نحو الخليج وآسيا. هذا التأخير، الناتج عن: الصراع السياسي، وضعف الإرادة الحكومية، وغياب التمويل، وتنازع القوى المحلية والإقليمية داخل العراق،
سمح للإمارات وإسرائيل بطرح بدائل في المنطقة، والتي تشكل خطراً مباشراً على الدور الذي تطمح له تركيا والدوحة للعبه في خارطة التجارة والطاقة.
وهنا يدخل الهجوم على كورمور في منطق إعادة هندسة النفوذ عبر ضرب استثمارات إماراتية استراتيجية في منطقة حساسة تخضع لتأثير السليمانية والاتحاد الوطني - الخصمان التقليديان لتركيا - وبإسناد محتمل من قطر التي تخوض بدورها صراعاً مع الإمارات في ملف الغاز العالمي.
*العراق يدخل مجال الصراع دون إرادته*
الهجوم لم يُصمَّم فقط لتوجيه رسالة للإمارات، بل صيغت بحيث يُحمَّل الحشد الشعبي والفصائل المسؤولية إعلامياً عبر التحشيد والإيحاء بأنها ضربة من "بيئة المقاومة". هذا الاتهام المحتمل يمهّد لتصعيد أميركي ضد الفصائل تحت مبرر حماية الاستثمارات الأميركية في حقول إقليم كردستان العراق. أي أن تركيا، إن كانت خلف العملية، لضرب الإمارات، جاءت لخلط أوراق السليمانية، والضغط على الفصائل، لتحرّض واشنطن ضد خصومها الإقليميين.
عبر هذا المشهد المركّب، يبدو العراق قد دخل فعليًا في دائرة الصراع التركي – الإماراتي – القطري - الإسرائيلي، وهي دائرة تتحرك فوق خرائط الطاقة والممرات التجارية، وتستخدم الطائرات المسيّرة والحرب الاقتصادية كأدوات رئيسية.
استهداف كورمور ليس سوى أول مؤشر على انتقال حرب المحاور إلى قلب العراق، في لحظة إقليمية يتسابق فيها الجميع للسيطرة على خطوط الغاز والنفط والعبور التجاري، بينما تظل بغداد والإقليم مسرحاً مكشوفاً لهذا الاشتباك المتصاعد.