حسن درباش العامري
الجاسوسية والإرهاب والقتل والسرقة تبدو في ظاهرها جرائم بشعة تستوجب العقاب، وربما إنهاء حياة الفاعل أو تقييد حريته. غير أنّ هذه الأفعال نفسها قد تتحوّل عند آخرين إلى أدوات ضرورية لتحقيق السيطرة أو بلوغ طموح سياسي أو شخصي، فيُنظر إليها كوسائل مشروعة لتقديم المال العام لتحقيق غايات خاصة تحمل وجوه مشتركه !ما دامت تفضي إلى نتائج ملموسة. وهكذا ينقلب القبيح في عينٍ ما إلى جميل في عين أخرى، ويتحوّل المنبوذ إلى وسيلة مبرَّرة، لأنّ الألوان تُرى بعين الناظر وقلبه، لا بما أراده الرسام وحده. وهنا يشير قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾.
الأنانية والتشبث بالموقع، واستضعاف الآخرين واستصغارهم تبقى نتائج وانعكاسات، وتُنتج بذور الكراهية، وتفتح شهية التمرّد، حتى على المبادئ والثوابت ذاتها. وحين تختلط القيم بالمصالح، ويتداخل الحق بالباطل، ينشأ غضبٌ مجهول الوجهة، سرعان ما يتحول إلى قوة عمياء تدفع صاحبها إلى ارتكاب ما هو أفظع. عندها قد تنقلب الحمامات الوديعةً إلى ضباع كاسرة، وتتهاوى الشعارات الرفيعة أمام نزوات الحقد الكامن.
تجارب الشعوب شاهدة على ذلك؛ فكم من قائد رفع رايات الفضيلة لكنه لم يلبث أن سقط حين تجاهل مشاعر الناس أو ميّز بينهم. وكم من مشروع إصلاحي بدأ نقيًّا ثم انحرف حين تسللت إليه الضغائن الخفية، فتحوّلت الفضائل المعلنة إلى أحقاد مضمرة. فالتمييز مؤلم، والتجاهل يولّد ثورة في النفوس، والثورة حين تشتعل لا تعرف ميزان العدل ولا حدود الفضيلة.
إنّ قراءة هذه الظواهر تفرض علينا إعادة النظر في أحكامنا على السلوك البشري. فما يبدو جريمة قد يُقدَّم للبعض كخدمة، وما يُسمّى فضيلة قد يُستَغلّ أداةً للهيمنة. ولعلّ التحدي الأكبر أمام المجتمعات ليس فقط في رفض الجرائم، بل في منع تبريرها وتجميلها تحت عناوين زائفة. عندها فقط تستعيد القيم معناها الحقيقي، ويستقيم ميزان الفضيلة على نحوٍ يقي الناس من تحوّل الأحلام إلى كوابيس، ومن الشعارات إلى سلاسل من الأحقاد.