*تفكيك السرديات المتضاربة حول الانسحاب الأميركي من العراق*




ناجي الغزي/ باحث سياسي واقتصادي


في التاسع من تموز/ يوليو 2025، بدأت المرحلة الأولى من الانسحاب الأميركي التدريجي من القواعد العسكرية في العراق، تنفيذاً لتفاهم رسمي بين بغداد وواشنطن يقضي بخروج قوات التحالف الدولي على مرحلتين: الأولى بحلول أيلول/سبتمبر 2025، والثانية في نهاية 2026، ضمن سياق معلن وموثق في إطار المفاوضات العسكرية العليا الجارية منذ مطلع 2024. غير أن هذا الحدث، رغم وضوح سياقه السياسي والعسكري، لم يسلم من موجات التوظيف الإعلامي الممنهج الذي يسعى لتشويه مضامينه وتحويله إلى مادة تثير الذعر، وتعيد إنتاج خطاب التشكيك والتضليل.


*أولاً: بين الواقع الميداني والاستراتيجية الأميركية*


الانسحاب الأميركي من العراق لا يأتي على خلفية قرار مفاجئ أو انسحاب تكتيكي تحت الضغط، كما يصوره البعض أو يسوقه الاعلام المضلل، بل هو نتيجة عملية تفاوض بدأت منذ أكثر من عام ونصف، تمخضت عنها تفاهمات واضحة، تراعي التحديات الميدانية، والتحولات السياسية، وتوازنات القوى الإقليمية والدولية. الولايات المتحدة لاترغب بالانسحاب من العراق بشكل فوضوي، يعكس حالة من الانكسار أو الهروب، كما فعلت في أفغانستان، بل تغادر وفق خطة مدروسة ومتفق عليها. مع إبقاء عدد محدود من المستشارين والمدربين، ودعم استخباري تقني، لا يُقارن بمستوى الحضور العسكري السابق.

إن تقليص القوات الامريكية لا يعني تخليها عن العراق، بل إعادة تعريف طبيعة العلاقة: من وجود ميداني مباشر إلى شراكة استراتيجية أمنية. وهو انسحاب يُفترض أن يُقابل وطنياً بارتياح نسبي، خاصة بعد سنوات من المطالبة البرلمانية والشعبية بإنهاء الوجود الأجنبي، لكن المفارقة تكمن في أن بعض وسائل الإعلام، المحسوبة على "المعسكر المضاد للدولة"، أو مجاميع سلبية وسيئة ما تسمى "بالطابور الخامس" اختارت أن تقرأ هذا الانسحاب من زاوية أخرى، لا تستند إلى معلومات، بل إلى سرديات إثارية.


*ثانياً: الإعلام الأصفر ومسرح الانسحاب*


منذ اللحظة الأولى للإعلان عن بدء تنفيذ المرحلة الأولى من الانسحاب، ظهرت على شاشات بعض القنوات الإقليمية والمحلية، أصوات مأجورة تصف المشهد بأنه "مسرحية أميركية"، أو "مناورة لخداع العراقيين"، وتروج لفكرة أن هذا الانسحاب هو جزء من تهيئة المسرح العسكري لحرب مقبلة. والأنكى أن هذه الوسائل، التي تدعي المهنية، لا تقدم أي وثائق أو أدلة، بل تعتمد على "تحليل الخوف"، والاستثمار في مشاعر الشارع العراقي المثقل بفوضى التجارب السابقة.

تعمل هذه الوسائل ضمن "آلة تضليل منظمة"، وظيفتها خلط الأوراق وتشويش الفهم العام، بحيث يتم تسويق الانسحاب كمؤامرة بدل كونه إنجازاً سيادياً. والمثير للقلق أن هذه الحملة لا تستهدف الحقيقة فقط، بل تستهدف إرادة المواطن العراقي وثقته بالدولة، فتضرب مفاصل الوعي، وتبث الشك في أي قرار سياسي مستقل.


*ثالثاً: الأرضية الخصبة للشائعات*


يبدو أن البيئة السياسية والمناخ النفسي والاجتماعي الذي يتفاعل فيه الرأي العام العراقي مع أخبار الانسحاب الأميركي ليس نتاجاً لحظة آنية، بل هو امتداد لإرث طويل من فقدان الثقة بمؤسسات الدولة، وتجارب مريرة مع الوعود غير المنجزة، والتقلبات الحادة في المشهد السياسي والأمني. هذه الخلفية تجعل شرائح واسعة من المواطنين أكثر عرضة لتأثير الخطابات المشحونة والمعلومات المضللة التي تستثمر في القلق الشعبي، وتبني روايات تشكك في أي تحول إيجابي محتمل.


وفي هذا السياق، تجد بعض الأطراف - التي اعتادت على مقاربات أمنية تقليدية في تفسير التحولات - أن الانسحاب الأميركي يطرح تحدياً لمفاهيم راسخة، ما يدفعها إلى التشكيك في دوافعه والتقليل من أهميته، عبر خطاب إعلامي يُعيد إنتاج فكرة "المؤامرة" ويُبقي على أجواء التهديد والتوجس. ليس دفاعاً عن الحقيقة، بل حفاظاً على أنماط سائدة من التفكير تبرر بقاء حالة السيولة واللا استقرار.


*رابعاً: الانسحاب فرصة لإعادة بناء القرار السيادي*


السرديات التي تصف الانسحاب الأميركي بـ"الفراغ الأمني" تتجاهل حقيقة أن الجيش العراقي ومؤسسة الحشد الشعبي العسكرية باتت اليوم أكثر استعداداً

السرديات التي تحاول ربط الانسحاب الأميركي بـ"فراغ أمني" تتجاهل بشكل جلي التطورات الحقيقية على الأرض، حيث أظهرت المؤسسات الأمنية العراقية، كالجيش العراقي ومؤسسة الحشد الشعبي العسكرية ، قدرة متنامية على التعامل مع التحديات الأمنية المستمرة. لم تعد المعركة ضد تنظيم داعش تتطلب وجوداً ميدانياً أميركياً مباشراً كما في السابق، بل أصبحت ترتكز بشكل أكبر على الدعم اللوجستي والتقني، وهو ما يعكس نضجاً في إدارة الملف الأمني العراقي.

علاوة على ذلك، أبانت الحكومة العراقية خلال المفاوضات الأخيرة عن موقف تفاوضي مستقل، حيث رفضت بشكل واضح أي تمديد لوجود القوات الأجنبية بعد العام 2026، مؤكدة على ضرورة إنهاء هذا الوجود العسكري بشكل كامل وفق جدول زمني محدد، وهو ما يشير إلى تعزيز إرادة وطنية تصب في استعادة السيادة الأمنية والسياسية.

يمثّل هذا السياق فرصة تاريخية لإعادة بناء منظومة الدفاع الوطني على أسس مستقلة وقوية، تتجاوز الاعتماد على مظلات الحماية الخارجية، ويتطلب ذلك إرادة سياسية متماسكة، فضلاً عن تعزيز خطاب وطني إعلامي يصدّ محاولات التشويش والتضليل التي تحاول تصوير الانسحاب كخطوة نحو الانهيار بدلاً من كونه مدخلاً لمرحلة جديدة من الاستقرار والتمكين.


*خامساً: الأبعاد الإقليمية والدولية للانسحاب*


من الواضح أن الولايات المتحدة، في عهد الرئيس دونالد ترامب، تعيد صياغة انتشارها في الشرق الأوسط، عبر استراتيجية تقليص الأكلاف وتعزيز التحالفات المرنة. ومن هنا، فإن الانسحاب من العراق لا يعني تخلياً عن المصالح، بل تحوّلاً نحو إدارة النفوذ من بعيد، خصوصاً في ظل التغيرات الجيوسياسية المرتبطة بصعود المحور الإيراني-الروسي-الصيني.

ومن جانب آخر، تحاول واشنطن إرسال رسائل انتخابية للداخل الأميركي مفادها أنها "أغلقت صفحة العراق"، وأن الجنود الأميركيين لن يبقوا في ساحات صراع لا تخدم المصالح الأميركية المباشرة. وهي بذلك توازن بين متطلبات الداخل والهيمنة الإقليمية.


*سادساً: نحو مقاومة إعلامية وطنية*


ما يجري اليوم من تضليل إعلامي بشأن الانسحاب الأميركي ليس مجرد اختلاف في التفسير، بل معركة على الوعي والسيادة. فبينما تحقق الحكومة العراقية إنجازاً استراتيجياً عبر فرضها لجدول انسحاب واضح وملزم، تعمل قوى "الإعلام الأصفر" على تشويه هذا الإنجاز وتحويله إلى مأزق وهمي.

إن المطلوب اليوم ليس فقط الرد على هذه السرديات، بل تأسيس مشروع إعلامي وطني قادر على صناعة خطاب سيادي، واعٍ، ومتماسك، يشرح للناس الواقع كما هو، ويحبط محاولات التخويف والتهييج، ويكشف من يقف خلف هذه الحملات، التي تسعى في جوهرها إلى منع العراق من امتلاك قراره الحر، وتحويل كل فرصة إلى تهديد.

الانسحاب الأميركي من العراق ليس نهاية، بل بداية لصياغة معادلة سيادة جديدة... شرط أن يُحمى من الداخل، لا أن يُنهش إعلامياً بأقلام مأجورة تنفخ في رماد الخوف وتكتب سيناريوهات الخراب بأحبار أجنبية.

إرسال تعليق

أحدث أقدم