عودة "البوقجي"... حينما تصبح الأكاذيب مهنة



بقلم الكاتب والخبير السياسي 

حسن درباش العامري 


يبدو أن مهنة "البوقجي" قد عادت بقوة إلى المشهد الإعلامي والسياسي في المنطقة، ولكن بلباس جديد يتفنن في قلب الحقائق وتزوير الوقائع، خصوصًا بعد انتهاء الحرب الإسرائيلية–الإيرانية الأخيرة، التي مثلت تحولًا كبيرًا في موازين القوى بالمنطقة، وأفرزت واقعًا جديدًا لم يكن يُرضي الكثير من الأطراف المعادية لمحور المقاومة.

ما يثير السخط والاشمئزاز في آن واحد، هو أن بعض الأبواق الإعلامية بدأت تروج لأكاذيب مفضوحة بشأن مآلات تلك الحرب، فبعد أن توسلت إسرائيل للوساطة عبر كل من قطر وفرنسا والولايات المتحدة لوقف إطلاق النار، خرجت علينا هذه الأبواق لتقلب الحقائق رأسًا على عقب، مدّعية أن ما جرى كان نصرًا صهيونيًا لا إيرانيًا، وهو تضليل فج لا يصمد أمام أبسط الحقائق الميدانية والسياسية.

وآخر ما وصلت إليه هذه الحملة هو محاولة إلصاق حادثة استهداف مواقع الرادارات العراقية في التاجي والبصرة، بالحشد الشعبي، في سياق إعلامي خبيث يهدف إلى شيطنته وتشويه سمعته أمام الرأي العام. بلغ الاستهتار حد الادعاء أن الطائرات المسيّرة انطلقت من منطقة جرف الصخر، رغم أن لا دليل يؤيد هذه الرواية، بل إن من يروج لها يعجز عن تقديم أي مصدر موثوق حين يُسأل، ويكتفي بالصمت والارتباك، ما يؤكد نية التضليل وافتعال الاتهام دون دليل.

وفي وقت ما تزال فيه الحكومة العراقية تُجري تحقيقًا دقيقًا حول هذه الحوادث، فإن من واجبنا كخبراء ومتابعين أن نحلل الحدث من زاوية المصلحة والدوافع. فهل للحشد الشعبي مصلحة في ضرب مواقع عسكرية عراقية؟ قطعا لا. بل إن الحشد جزء لا يتجزأ من المنظومة الأمنية، واستهداف الجيش يعني استهداف نفسه. وهل لإيران مصلحة في ضرب العراق أو إضعاف الحشد؟ بالتأكيد لا، فإيران تعتبر استقرار العراق وتقوية دفاعاته مصلحة استراتيجية.

إذاً من المستفيد الحقيقي؟ لا شك أن كل المؤشرات تقود إلى إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، اللتين لم تُخفيا تهديداتهما المستمرة للحشد ولأي قوة عراقية مرتبطة بمحور المقاومة.

لكن المثير للدهشة أن بعضهم قال إن الطائرات انطلقت من داخل الأراضي الإيرانية! هنا يجب أن نتوقف للتأمل. هذه الرواية، رغم ما فيها من غرابة، إلا أنها قد تكشف عن خيوط مهمة، فبداية الهجوم الإسرائيلي على إيران انطلقت أيضًا من طائرات مسيّرة يُقال إنها خرجت من الداخل الإيراني لضرب أهداف إيرانية! هذا لا يفسَّر إلا بوجود خلايا موساد إسرائيلية نائمة في الداخل الإيراني تعمل ضمن ما يُعرف بالدولة العميقة.

وبالقياس على ذلك، فإن نفس الخلايا قد تكون وراء استهداف مواقع داخل العراق، لتأليب الداخل العراقي على الحشد الشعبي، وإشعال فتيل فتنة داخلية تضعف هذا التشكيل الوطني الذي أثبت قوته وفعاليته في حفظ السيادة ومكافحة الإرهاب.

ما يجري اليوم هو محاولة ممنهجة لتحطيم مرتكزات القوة العراقية، وعلى رأسها الجيش والحشد الشعبي، عبر فبركة الاتهامات وترويج الشبهات، كل ذلك في خدمة أجندات خارجية لم يعد يخفى على أحد من يقف خلفها.

ختامًا، ينبغي عدم الانجرار خلف البوقجية الجدد، أولئك الذين باعوا مهنيتهم من أجل مكاسب آنية أو أحقاد أيديولوجية، فالوطن لا يُبنى بالكذب، ولا تُحمى السيادة بالتضليل، بل بالوعي والتحقيق الموضوعي وقراءة الأحداث ضمن إطار المصالح العليا.

بغداد ٢٥/٦/٢٠٢٥

إرسال تعليق

أحدث أقدم