خيانة المثقفين



في عالم تتسارع فيه المتغيرات السياسية والاجتماعية، يبقى المثقف هو الحامل الأساسي لمشعل الوعي، واللاعب المحوري في رسم ملامح الحياة الأخلاقية والفكرية للمجتمع. فالمثقف ليس مجرد قارئ نهم أو كاتب بارع، بل هو ضمير حي، وعقل ناقد، ونموذج إنساني رفيع يُحتذى به في السلوك والقول والموقف. ولأن الإنسان قيمة عليا، فإن من يرتقون إلى درجة "المثقفين الحقيقيين" يجب أن يكونوا فوق كل اعتبار طائفي، ديني، عرقي أو قومي، يحملون في فكرهم وعطائهم أسمى معاني الإنسانية.

المثقف كنموذج إنساني وأخلاقي 

المثقف، بحكم تكوينه الفكري والأخلاقي، يملك قدرة فائقة على التأثير في الرأي العام، ليس من خلال الخطابة الفارغة أو المجاملة السياسية، بل من خلال الكلمة الواعية، والنقد البنّاء، والسلوك النموذجي. وهو القادر على تشكيل قناعات المجتمع، وتعزيز ثقته بذاته، وتوجيهه نحو الاحترام المتبادل، والتعايش، والتربية الأخلاقية والتعليم الهادف.

ولأن المجتمعات المتقدمة تقيس رُقيها بمستوى إنسانيتها، فإن المثقف فيها يُعد حجر الأساس لبناء هذه القيم، إذ إن العطاء الإنساني أكثر رسوخًا من الإنجاز العلمي المجرد، وقد سقط من ذاكرة التاريخ علماء ومفكرون بسبب ابتعادهم عن جوهر الأخلاق.

ماذا يحدث حين يخون المثقف رسالته؟

حين يتنصل المثقف من رسالته الأخلاقية والعلمية، ويبيع ضميره مقابل مصالح سياسية أو شخصية، تبدأ منظومة القيم بالانهيار. يتحول العقل إلى أداة تبرير، ويطفو الشر على الخير، وتتفشى في المجتمع أمراض الرشوة، والجهل، والفساد، والاستغلال. حينها يُفقد المثقف مكانته كقدوة، ويتحول من حامل للوعي إلى وسيلة في يد الأنظمة الفاسدة.

إن خيانة المثقفين لا تقتصر على الصمت، بل تشمل الانحياز للسلطة على حساب الضمير، واستخدام الفكر لتزييف الحقيقة، والدفاع عن الجلاد بدلًا من الضحية. وهذه الخيانة هي ما حذر منه الفيلسوف الفرنسي جوليان بندا في كتابه الشهير "خيانة المثقفين" (La Trahison des Clercs).

جوليان بندا: صوت الضمير في مواجهة تواطؤ العقل

في عام 1927، أطلق بندا صرخة مدوية في وجه مثقفي عصره الذين تخلّوا عن رسالتهم السامية، وانخرطوا في مشاريع قومية ودنيوية، مستخدمين فكرهم في تبرير الحرب، والعنصرية، والتعصب.

رأى بندا أن المثقف يجب أن يكون صوتًا فوق الأيديولوجيا، لا أداةً في خدمتها، وأن مهمته الحقيقية هي الدفاع عن الحقيقة حتى لو كانت ضد التيار العام.

ومن أبرز ما طرحه بندا:

1. المثقف كضمير أخلاقي: لا يُباع، ولا يخضع لأي سلطة أو قومية.

2. التحزّب خيانة للعقل: عندما ينحاز المثقف لسياسة أو قومية، يفرّغ فكره من محتواه الإنساني.

3. العقل يجب أن يسمو فوق العاطفة: استخدام العقل لتبرير الحقد والانتقام هو انحراف فكري.

4. التحذير من انهيار العقلانية: إذا خان المثقفون ضميرهم، تفقد المجتمعات مناعتها، وتُفتح أبواب الهمجية، كما حصل مع صعود النازية والفاشية.

حماية المثقف واجب مجتمعي

من هنا، يصبح من الضروري أن نحمي المثقف من الضغوط السياسية والانهيارات الأخلاقية، وأن نعزز ثقته بنفسه وبمجتمعه حتى لا يُجر إلى صفوف السلطة الفاسدة. فحين ينهار المثقف، ينهار معه ميزان العدالة، وتُسحق القيم، ويتحول المجتمع إلى كيان هش، لا يستطيع مقاومة الشر والفساد.

في الختام

خيانة المثقف ليست خيانة فردية، بل خيانة لمنظومة كاملة من المبادئ التي يقوم عليها المجتمع السليم. وهي جرس إنذار يجب أن ننتبه إليه قبل أن تصبح الكلمة أداة للعنف، والعقل خادمًا للباطل، والثقافة ستارًا للخراب.

المثقف الحق هو من يبقى واقفًا، لا ينحني إلا للضمير، ولا يكتب إلا ما يُشبه النور، ولا يتحرك إلا بما يليق بالإنسان.



إرسال تعليق

أحدث أقدم